كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال، ويعرف لوناً آخر منهم وهم اُولئك الزُّهّاد الدّجّالون الذين يتظاهرون بالزهد رياء ونفاقاً، حتّى إذا تقربوا من الطغاة كانوا لهم أعواناً وأنصاراً، إنّهم هذا الصنف الذي وصفه الإمام علي عليه السلام بقوله:
«ومنهم مَنْ يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا. قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية».
هؤلاء هم الزعماء الذين كان الرجل العادي يعرفهم وقد اعتادهم وأفهم، بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير التساؤل.
ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يُخيّر بين حياة رافهة فيها الغنى وفيها المتعة ، وفيها النفوذ والطاعة ، ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية والإسهام معه في طغيانه ، والمساومة على المبدأ والخيانة ، وبين الموت عطشاً مع قتل الصفوة الخلّص من أصحابه وأولاده ، وإخوته وأهل بيته جميعاً أمامه ، وحيث تنظر إليهم عينه في ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ ، وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدواً هائلاً يريد لهم الموت أو هذا اللون من الحياة ، ثم يرى مصارعهم واحداً بعد واحد ، وإنّه ليعلم أيّ مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده ؛ سبي وتشريد ، ونقل من بلد إلى بلد ، وحرمان ... يعلم ذلك كله ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة.
لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء أن يروا إنساناً كهذا؛ لقد اعتادوا على زعماء يُمرّغون جباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من هذا بكثير، أمثال عمر بن سعد، والأشعث بن قيس ونظائرهما. تعودوا على هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان، هذا
النموذج الذي يتعالى ويتعالى حتّى ليكاد القائل إن يقول: ما هذا بشر ...
ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق، هذا اللون من السلوك الضميرَ المسلم هزّاً مُتداركاً، وأيقظه من سُباته المرَضي الطويل؛ ليشاهد صفحة جديدة مُشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشرف والمبدأ، والحياة العارية من الذلّ والعبودية. ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها، وعن زيف الزعماء ـ أصنام اللحم ـ الذين يعبدهم، وشق له طريقاً جديداً في العمل، وقدّم له اُسلوباً جديداً في العمل، وقدّم له اُسلوباً جديداً في مُمارسة الحياة، فيه قسوة وفيه حرمان، ولكنّه طريق مُضيء لا طريق غيره جدير بالإنسان.
ولقد غدا هذا اللون المُشرق من الأخلاق، وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على كلّ حاكم يُجافي روح الإسلام في حكمه. إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المضيئة، ولكنّ الذي يتأثّر هي الاُمّة، وهذا هو ما كان يريده الحسين عليه السلام. لقد كان يريد شقّ الطريق للاُمّة المُستعبدة لتناضل عن إنسانيتها.
* * *
وفي جميع مراحل الثورة، منذ بدايتها في المدينة حتّى ختامها الدامي في كربلاء، نلمح التصميم على هذا النمط العالي من السلوك.
ها هو الحسين عليه السلام يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة وهما بعد في المدينة:
«يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية»
وها هو يتمثل بأبيات يزيد بن مفرغ الحميري حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة:
لا ذُعرت السّوام في فلقِ الصب |
|
حِ مُغيراً ولا دُعيت يزيدا |
يوم أُعطي على المهانةِ ضيماً |
|
والمنايا ترصدنني أن أحيدا |
تابعونا في الحلقة العشرين