ليست كربلاء المقدسة، مدينة النور ومعقل الشهادة، مجرد مزارٍ للقلوب المؤمنة وحسب، بل هي أيضاً مهدٌ لحركة علمية نابضة، تماوجت فيها أمواج الفقه والفكر والبيان، حتى غدت إحدى أعظم منارات العلم في العالم الإسلامي.
وعلى الرغم مما مرّ بها من تقلبات بين المدّ والجزر، بقيت كربلاء حتى القرن الثاني عشر الهجري مركزاً علمياً فاعلاً، قبل أن تنتقل الريادة لاحقاً إلى النجف الأشرف بعد هجرة زعيم الحوزة آنذاك السيد مهدي بحر العلوم، المولود في كربلاء عام 1155هـ، فكان انتقاله نقطة تحوّل تاريخية أثّرت في خارطة العلوم الدينية في العراق والمنطقة.
غير أن الفترة الذهبية التي سبقت هذا الانتقال كانت استثنائية بكل المقاييس، فقد تحوّلت كربلاء في تلك العقود إلى قبلةٍ لطلاب العلم، ومقصدٍ لفقهاء المذاهب، حيث انفتحت فيها الآفاق الفكرية، وانتشرت حرية الاجتهاد والنقاش، وسادت بيئة معرفية غير مسبوقة.
وفي تلك المرحلة، لمع في سماء كربلاء، كوكبة من العلماء الكبار، الذين تركوا بصماتهم الخالدة في ساحة الفقه والفكر الشيعي، منهم السيد نصر الله الفائزي الحائري، شهيد المحراب الحسيني (1168هـ)، والشيخ مهدي الفتوني (1183هـ)، والشيخ يوسف البحراني، صاحب موسوعة "الحدائق" (1186هـ)، إلى جانب الآغا باقر البهبهاني، مجدد المدرسة الأصولية (1205هـ)، والسيد علي الطباطبائي، صاحب موسوعة "الرياض" وابنه السيد محمد المجاهد، فضلاً عن الشيخ شريف العلماء، والعلّامة السيد كاظم الرشتي، وصاحب كتاب "الفصول"، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، وغيرهم كثيرون.
لم يكن هؤلاء الرموز مجرد فقهاء عابرين، بل صناع مرحلة، وعقولاً تركت لنا إرثاً معرفياً ووثائقياً هائلاً، تناثر في شكل إجازات علمية، ورسائل، وشهادات، ومضابط علمائية، حفظت بعضها خزائن الكتب، وضاع كثير منها في زوايا النسيان.
واليوم، ومع بروز الحاجة إلى حفظ هذا الميراث الفقهي والفكري، انطلقت جهود علمية جادّة لجمع تلك الوثائق وتنظيمها في ملفات خاصة تخلّد سير كلّ علم من أعلام الحوزة الكربلائية، في محاولة وفية لاستعادة التاريخ من بين أنقاضه.
إنّ ما تخبِّئه مكتبات كربلاء وخزائنها الشخصية، لا يزال يحمل في طياته أسرار مجدٍ علميٍ خفيّ، ينتظر من يغوص في أعماقه ليُعيده إلى الضوء، ويُبصر العالم بما أنجبته هذه الأرض من عباقرة الفكر وروّاد الاجتهاد.
المصدر: وثائق الحوزة العلمية في كربلاء منذ نشوئها حتى عام 1444هـ / 2023م، د. كامل سلمان الجبوري، ج1، ص6-8.