في زوايا الذاكرة الكربلائية، وبين أروقة الأدب الحسيني، يسطع اسمٌ طُبع بالحزن والبديهة، بالارتجال والدموع، الشيخ الأديب "قاسم بن محمد علي بن أحمد الحائري"، المعروف بـ "الهرّ"، أحد أبرز شعراء كربلاء في القرن الثالث عشر الهجري، الذي حوّل مآسي عاشوراء إلى أنغام دامعة، وملأ المجاميع الأدبية المخطوطة بنار الشوق ورماد المصاب.
ولد هذا الطود الحسيني الشامخ عام 1216 هـ في كربلاء المقدسة، وعاش فيها شاعراً فصيحاً، أديباً فاضلاً، سخيّ البيان، ارتجاليّ النظم، حتى لقب بـ "شاعر البديهة"، لكنه أُصيب في أواخر أيامه بالعمى، فكان ظلامه البصري نوراً روحياً استحضر فيه مأساة الطف بشجن مختلف.
لم يكن "الحائري" شاعراً فحسب، بل كان شاهداً روحانياً على كربلاء التاريخ والمأساة، حيث خلّد معشوقه الإمام الحسين "عليه السلام" في مراثٍ حارقة تصف أدق تفاصيل المصاب، من الدم، والخيام، والسيدة زينب، والإمام السجاد، والجواد الصهيل، والرؤوس المرفوعة على الرماح.
وفي واحدة من أعذب مراثيه، يخاطب "الحائري" محاجر عينيه، كأنهما النبع الذي لا ينضب، منشداً:
أمحاجرٌ أبكي سيد الشهداء نجل النبي وفاطم الزهراء
ما عذرُ يومِ الحشرِ من لم يبكه بمدامع ممزوجة بدماء
ويمضي مناجياً الدم والدمع، حتى تتحوّل القصيدة إلى لوحة دامعة:
سحّي الدما عوض الدموع لفتية بذلوا النفوس السيد الشهداء
لمّا دعاهم للقتال فداؤه روحي وقل له عظيم فداء
ويصل ذروة الألم وهو يصوّر مشهد وداع الإمام الحسين لأخته زينب "عليهما السلام":
أسفي له نادى لزينب أخته يا أخت قومي قبل وشك فناء
قومي الى التوديع يا ابنة حيدر لا تجزعي من مفضع الأرزاء
لم يكن شعر "الحائري" تكراراً نمطياً لقصائد الرثاء، بل كان مشحوناً بالتصوير الحيّ والمعايشة الروحية، ففي مشهد استشهاد السبط الأصغر "عليه السلام"، يصوّر السهم يخترق قلب الحسين، والنساء تهرع، والجواد يصهل، والرأس يرتفع على القنا، في ساحة سردٍ متوهّجة:
فأصابه سهمٌ بلَبّة قلبه ليت لفدا قلبي له وحشائي
فهوى صريعاً يستغيثُ من الظما وغدا الجواد يجول في البيداء
رحل الشيخ "قاسم الحائري" في عام 1276هـ، بعد أن سلّم قلمه ودمعه لأرض كربلاء، فمات الأديب الأعمى، لكن كلماته بقيت تنظر من المجاميع المخطوطة إلى كل جيل يأتي ليقرأ، فيبكي، ويستذكر أن الشعر كان وسيبقى شاهداً على ظلامة الحسين.
المصدر: النخبة من أدباء كربلاء، نور الدين الشاهرودي، 2005، ص15-16.