في زاوية مظلمة من التاريخ، حيث تمتزج الحقيقة بالأسطورة، وتُطمس موقعة كربلاء الخالدة بركام من السرديات المنحولة، تظهر مؤلفات نُسبت زوراً إلى أعلام كبار، لتُحدث تشويشاً خطيراً في ذاكرة الأمة، وتُربك فهمها لواحدة من أعظم ملاحمها الإنسانية.
من بين هذه المؤلفات، يبرز كتاب "نور العين في مشهد الحسين"، المنسوب زوراً إلى العالِم الشافعي البارز "أبي إسحاق الأسفرائيني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الشافعي الأشعري"، المتوفى سنة (418 هـ)، والذي لم يذكر أحد من المترجمين له على مر العصور أنه ألّف كتاباً بهذا العنوان أو المضمون.
اللافت أن أول من أشار لهذا الكتاب كان "إسماعيل باشا الباباني" في كتابه "هدية العارفين"، ومن هناك بدأت رحلة النسبة الزائفة التي لم تقف على دليل علمي، بل أُدرجت ضمن سلسلة من المؤلفات التي لا تستند إلى عقل أو نقل، وقد علّق عليه المحقق الراحل السيد "عبد العزيز الطباطبائي"، بالقول إن "الكتاب طبع في مصر عام (۱۳۰۲ هـ) وأظن ان الكتاب منحول منسوب لا يلائم مصنفات القرن الرابع، وطبع في بومباي سنة (۱۲۹۹هـ)، وفي القاهرة سنة (١٣١٥هـ)، وليس على المطبوع إلا أنه تأليف العالم العلامة ابي اسحاق الاسفرائيني، ولا نعرف أبا اسحاق الاسفرائيني سوى ابراهيم بن محمد ولكن الكتاب منحول".
وما يؤلم حقاً أن هذه المؤلفات، رغم طابعها الأسطوري وافتقارها للسند، دخلت إلى منظومة المصادر التاريخية التي تناولت واقعة كربلاء، وأخذ عنها العديد من المؤلفين المحدثين دون تمحيص.
ومن أبرز من تأثر بها، "القندوزي" في "ينابيع المودة"، وغيرهم ممن تساهلوا في النقل دون التحقق من سلامة المصدر.
ومع مطلع القرن العاشر الهجري، ازدادت وتيرة هذه المؤلفات التي تحمل طابعاً روائياً وأسطورياً أكثر من كونها وثائق تاريخية، فظهر كتاب "روضة الشهداء" لكمال الدين الحسين بن علي الواعظ الكاشفي (ت 910هـ)، والذي أصبح مرجعاً شعبياً واسع الانتشار رغم احتوائه على شخصيات مختلقة، وأحداث مبالغ فيها، لا يمكن إثباتها عبر أي مصدر موثوق.
وكذلك كتاب "إكسير العبادات في أسرار الشهادات" للفاضل الدربندي، الذي امتلأ بالقصص العاطفية والأساطير الحماسية، والتي شّكلت ما بات يُعرف لاحقاً بـ "الولائيات" أو "الحماسيات"، لكنها رغم أهميتها العاطفية، أضعفت السرد التاريخي الصلب، وأدخلت على واقعة كربلاء شخصيات وهمية، تسببت في اضطراب الرواية الأصلية.
في مواجهة هذا التراكم من الروايات غير المحققة، نهض مركز كربلاء للدراسات والبحوث في العتبة الحسينية المقدسة، بجهد علمي نوعي من خلال موسوعته الحضارية الشاملة، حيث تبنّى منهجاً صارماً في تحليل النصوص التاريخية، وتحقيق مدى صحتها ومقارنتها بالمصادر ذات القيمة الأولية.
هذا المنهج التحقيقي لا يستند إلى النقد الظاهري فقط، بل يعتمد على التحليل الداخلي للنص، والسياق الزمني، وأسلوب الكتابة، والقرائن العقلية والنقلية.
وقد خلص الباحثون إلى أن كثيراً من المؤلفات قد وُضعت في ظروف سياسية وفكرية هدفت إلى تشويش وعي الأمة، وقطعها عن واقع الثورة الحسينية، أو إغراقها في بعد شعوري سطحي بعيد عن العمق الرسالي.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية الشاملة، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، ج4، ص20-22.