كربلاء... المدينة التي خطّت بدماء الشهداء أولى صفحات المجد، لم تكن يوماً مجرد قبلةً للزائرين، بل كانت ولا تزال منارة علم وفكر ووعي ثوري تجذر منذ قرون، لتُثمر نهضةً صحفية سبقت زمانها.
فمنذ القرن الثاني الهجري، بدأت أولى ملامح الحياة الفكرية تتفتح في ربوع كربلاء، حيث كان لعلمائها الأوائل كـ "حفص بن سليمان الغاضري"، و"عثمان بن عيسى"، دور ريادي في صياغة المشهد الثقافي.
وبحلول القرن الثالث، توهجت أسماء لامعة أمثال "محمد بن عباس الغاضري"، و"حميد بن زياد النينوي"، لتؤسس لمرحلة حيوية من التراكم المعرفي.
لم تكن المساجد في كربلاء مجرد دور عبادة، بل كانت جامعات مفتوحة يتقاطر إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، حيث تحوّلت إلى مقرات دائمة لحلقات الدرس والنقاش، وتشير المصادر إلى أن عدد مساجد كربلاء في إحدى المراحل بلغ أكثر من (100) مسجد، حيث كان أبرزها مسجد رأس الحسين، وجامع الآغا باقر البهبهاني، ومسجد الشيخ الأنصاري، وكلها شكلت أرضيةً خصبة لإنطلاق الفكر الحر والحوار الهادف، الذي يعتبر البنية التحتية لنهضة صحفية واعية لاحقاً.
وكان السلطان "عضد الدولة البويهي" قد أرسى أولى دعائم التعليم المنهجي في المدينة ببنائه للمدرسة العضدية سنة (367هـ)، والتي شكلت نواةً لما سيتحول لاحقاً إلى منظومة تعليمية متكاملة، تلتها مدارس رصينة أسسها أعلام كبار مثل الشيخ أحمد بن فهد الحلي، وشريف العلماء، والشيخ مرزا كريم الشيرازي، لتتحول كربلاء إلى مقصد علمي فريد، يغذي روحه الأدبية والفكرية.
أما في زمن الاستبداد العثماني ومحاولات التتريك، فقد كانت المجالس الأدبية الكربلائية، حصوناً منيعة حفظت للغة العربية نقاءها، وللأدب هويته، فتلك المجالس، كمجلس آل الطباطبائي، وآل القزويني، وآل طعمة، ومجلس آل الخطيب، لم تكن مجرد منصات للإنشاد والشعر، بل كانت منتديات للنقد والنقاش السياسي والفكري، التي ساهمت في تشكيل وعي نخبة من المفكرين والمحررين والصحفيين لاحقاً.
ولم يكن للحياة الفكرية أن تزدهر دون خزائن العلم التي ضمّتها مكتبات كربلاء، تلك التي تأسست بجهود العلماء والأدباء وفتحت أبوابها لطلاب المعارف، كما لعبت المطابع دوراً مفصلياً في توثيق هذا الإنتاج الفكري، ما ساعد على نشوء صحافة واعية متجذرة ثقافياً، ولعل مجلة "صوت شباب التوحيد" كانت إحدى المحاولات الرائدة لرصد هذا التراث المكتبي، وتوثيق دور المكتبات الحاضرة والبائدة في تغذية الحركة الصحفية.
في كربلاء المقدسة، لم تكن الصحافة صوتاً عابراً، بل امتداداً لخطاب نهضوي متجذر في العقيدة، متقدٍ بالحكمة، ومشبع بروح الطف، فهي المدينة التي تنطق بالحرف كما تنطق بالدم، والرائدة دائماً في أن تنفخ بالصحافة روحاً جديدة كلما ضاق أفق الزمان.
المصدر: صحافة كربلاء، د. سلمان هادي آل طعمة، 2020، ص9-12.