كربلاء... لم تكن بقعة عابرة على خارطة الأرض، بل مركزاً كونياً لا تزال تتقاطر عليه دموع العاشقين وقلوب الثائرين.
مدينةٌ ابتدأت قصّتها منذ البدء، فكانت على موعدٍ أبديّ مع الدم الطاهر، لتتحول إلى مركز إشعاع ديني وثوري امتزج فيه التاريخ بالقداسة، والتضحية بالخلاص.
يُرجِع المؤرخون أصل التسمية إلى "كرب إيل" أي "حرم الله"، دلالةً على قدسية موغلة في القِدم، ويُقال إنها تعني "كور بابل"، في إشارةٍ إلى مجموعة القرى البابلية التي شكّلت نواة هذه المدينة الخالدة.
وقد نزل فيها خالد بن الوليد أثناء فتوحاته في الحيرة سنة (13 هـ)، قبل أن يتوقف فيها ركب الإمام الحسين "عليه السلام"، لتتحول الأرض من مجرد ممر إلى مرتكز لثورة ستغيّر وجه الأمة إلى الأبد.
حين اختار سبط النبي الأكرم "صلوات الله عليهما "، أرض كربلاء منزلًا له ولأصحابه، لم يكن هذا الإختيار عشوائياً، بل وحياً متصلاً بالتكليف الإلهي، حيث قال "عليه السلام" في إحدى خطبه:
"كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء"، في دلالةٍ واضحة على إدراكه لمصير مقدّر، وسرّ إلهي لا يُفك إلا بالدم.
وقد عيّن الإمام الحسين "عليه السلام" لهذه البقعة الطاهرة، أخاه الوفي أبا الفضل العباس "عليه السلام" ليكون أوّل محافظٍ رسمي لكربلاء، فكان مثالًا للبسالة والإدارة النبيلة، وسُمّيت المدينة بـ "حرم الله" على لسان الإمام، لتغدو مركزاً رمزياً لعاصمة الثورة الحسينية ومهد الدولة الإسلامية الكبرى.
هذا وقد تنوعت أسماء كربلاء تبعًا لمناطقها وتاريخها، فمنها "الطف" التي تعني الطرف الشرقي للمدينة، و"نينوى" نسبةً إلى شمالها الشرقي، و"الغاضرية" التي تشير إلى مزرعة لبني أسد، حيث سكنوها بعد تمصير الكوفة، فضلاً عن "الحائر" المعني بموضع قبر الإمام الحسين "عليه السلام"، و"النواويس" غربي كربلاء، والتي كانت مقبرة للنصارى قبل الفتح.
ويحمل كل اسم من هذه الأسماء، نكهة الزمن ونبض الدم والشهادة، ويتقاطع مع مسارٍ تاريخي وثقافي وديني يُغني هوية المدينة.
هذه الأرض لم تنل عظمتها من رحم الطبيعة فحسب، بل لأن تربتها اختلطت بدماء سيد الشهداء، وبطل العروبة والإسلام، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب "عليهم السلام"، فصارت فلكاً يدور حوله الوجود الحسيني، كما عبّر أحد الشعراء بالقول:
لو لم تكوني بقعةً ميمونة ما اخترتِ ذاك الطاهر الميمونا
وقال آخر:
فيا كربلا طَلَّتِ السماءُ وربّما تنازل عفوًا حظُّ ذي السعيِ قاعدُ
المصدر: محمد النويني،أضواء على محافظة كربلاء، 1971، ص6-7.