في زمن طغت فيه فتاوى البلاط على صوت الحق، وازدحمت منابر الدين بوعّاظ السلاطين، وُلدت ثورة الإمام الحسين "عليه السلام" كشعلة إلهية لتبدّد ظلام التزييف والانهزام.
لقد استشعر سبط النبي الأكرم "صلوات الله عليهما" أن الانحدار الأخلاقي والسياسي للأمة لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مشروع أموي مرسوم، اعتمد على سياسة تدريجية في قتل الضمير الجمعي، باستخدام أدوات القمع والتخويف وتكميم الأفواه باسم الدين، وإسقاط الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل، حين لبس الطغاة رداء الإسلام، وأداروا دفة الخلافة كملك عضوض، يُشترى فيه الولاء ويُباع فيه الدين.
وسط هذا المشهد الداكن، برز الإمام الحسين كامتداد للرسالة المحمدية، وأمانة ثقيلة أوصى بها جده النبي الأعظم بقوله "صلى الله عليه وآله"، "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي..."، فكانت النهضة الحسينية ضرورة لا خياراً، وموقفاً إلهياً لا يخضع لحسابات القوة والعدد.
وعلى الرغم من قلة أنصاره، أدرك سيد الشهداء "عليه السلام" أن الوقت قد حان لفضح الزيف، فكانت كربلاء، التي لم تكن معركة بالسيوف فحسب، بل وقفة عقائدية جسّدها أنصاره ببطولات تفوق التصور، حين لبسوا القلوب على الدروع، وهرعوا إلى الشهادة وكأنهم يساقون إلى الجنة زُمَراً، متحررين من كل حسابات الدنيا.
لقد عرض الإمام عليهم الانصراف في ليلة العاشر قائلاً: "إن هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً..."، لكنهم أصرّوا على البقاء، مُفضلين الموت مع الحسين على حياة الذل مع يزيد.
وفي المقابل، كشف مشهد كربلاء عن نماذج ثلاثية لا تزال تتكرر في واقعنا الحالي، أولها المتملقون الوصوليون ممن آثروا السلامة والامتيازات على المبدأ، وثانيها الخونة الذين باعوا دينهم ليرتقوا في مدارج الطغيان، وأولئك المتذبذبون المشاركون في الجريمة، رغم قناعاتهم الداخلية، خوفاً أو طمعاً.
إلا أن أنصار الحسين كانوا قد كتبوا سطوراً خالدة، جعلت يوم الطف أعظم من بدر، لا من حيث العدد، بل من حيث الطهارة في النيّة، والصدق في الموقف، فقاتلوا طواغيتاً يرفعون راية الإسلام زوراً وبهتاناً، فكان انتصارهم في سقوط الأقنعة قبل سقوط السيوف.
إنّ كربلاء لم تكن في يومٍ ما مجلس بكاء، بل لحظة وعي، ومَن لم يستنهضه نداء الحسين اليوم، فلن تستنهضه صيحات المظلومين في أي زمان ومكان.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية الشاملة، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، ج4، ص31-33