في أرضٍ رُويت بفيض نهر الفرات، ومرّت عليها رياح محملة برواسب من أزمنة متعاقبة، تتشكّل ملامح تربة كربلاء المقدسة، كصفحة جيولوجية نابضة تسرد قصة المنطقة عبر آلاف السنين.
لا تُعد هذه التربة مجرّد عنصر من عناصر الطبيعة فحسب، بل تُشكّل أساس الحياة الزراعية والاقتصادية في المحافظة، وتتحكم في أنواع الزراعة، وحجم الإنتاج، بل وحتى أنماط الحيازة السكانية.
وإعتماداً على تصنيف مستشار الحكومة العراقية الأسبق لشؤون التربة، الخبير الهولندي "د. بيتر بيورنك" والصادر سنة 1960م، تُصنّف تربة محافظة كربلاء ضمن الترسبات النهرية التي حملها نهر الفرات خلال مواسم فيضانه، وهذه الرواسب لم تكن موحّدة، بل جاءت على شكل أملاح ذائبة، ومفتتات صخرية، وذرات طينية دقيقة، كما لعبت الرياح، عبر التعرية الريحية، دوراً مكملاً في نقل مكونات إضافية من المناطق المجاورة.
وتتكون التربة في معظم مناطق كربلاء من خليط من الطين والترسبات النهرية وحجر الكلس، مع نسبة طين مرتفعة تصل إلى 30%، مما يجعلها غنية جداً، لكنها تُعاني في بعض المناطق من تحديات صرف وملوحة.
هذا وتعدّ تربة كتوف الأنهار، أبرز أنواع التربة السائدة في مدينة سيد الشهداء "عليه السلام"، وتنتشر على جانبي جدوليّ الحسينية وبني حسن، وتمتاز ببنيتها الغرينية المزيجية ذات النسجة الخشنة إلى المتوسطة، كما تُظهر الفحوص أن نسبة الرمل فيها تصل إلى (25.8%)، والغرين (2.2%)، والطين (22%)، جاعلاً منها بيئةً مناسبة للزراعة في الكثير من مناطق المحافظة، وخاصةً تلك الواقعة في الوسط والشمال.
أما النوع الثاني من الترب الكربلائية، فهي تربة الأحواض، والتي تعدّ الأكثر تأثيراً في القطاع الزراعي بمدينة كربلاء، وخصوصاً في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، حيث ساعدت على ظهور بساتين نخيل وفواكه منتشرة، مدعومةً بنسبة طين تتراوح بين (50-70%) ونسبة كلس مرتفعة.
هذه الخصائص وفّرت بيئة خصبة للزراعة لكنها في الوقت نفسه فرضت تحدياً في التصريف والملوحة، ما جعل من الضروري جداً، تطوير أساليب الاستصلاح والري الدقيق.
أما في الجهتيّن الغربية والجنوبية الغربية، فتسود الترب الصحراوية ذات المكونات الكلسية والجبسية، وهذه الترب، رغم سعتها الجغرافية، تُعد من الفقيرة زراعياً بسبب قلة المياه السطحية، مما أجبر المزارعين على اللجوء إلى الآبار الارتوازية ذات الملوحة المرتفعة.
كما وتنتشر أيضاً تربة المنخفضات في مناطق مثل شط الهندية والحسينية وبحيرة الرزازة، وهي ترب ثقيلة ناعمة ذات مسامية منخفضة ونسبة طين تفوق الـ (70%)، ولعل أكبر تحدٍّ تواجهه هذه الترب هو تركّز الأملاح، مما يمنع استغلالها زراعياً دون تدخلات استصلاحية مكثّفة.
تكشف تربة كربلاء عن تركيبة جيولوجية غنية ومتنوعة، تحمل إمكانات كبيرة وفرصاً واعدة إذا ما أُحسن استثمارها، لكن هذه التربة تحمل أيضاً تحديات كبيرة من حيث الملوحة، ضعف التصريف، وندرة المياه في بعض المناطق، ما يتطلب تكاتف الجهود البحثية والزراعية لتطوير حلول مستدامة.
ومن هنا، تبرز أهمية اعتماد استراتيجيات زراعية تعتمد على إعادة تأهيل التربة، وتقنيات الري الحديث، واستصلاح الأراضي المالحة، لتبقى كربلاء كما هي دائماً، أرضاً مباركة تُنتج من طينها الخير والعطاء.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الجغرافي، 2017، ج1، ص41-44.