في الوقت الذي تتكالب فيه الأمم على تنظيم العمل وضمان كرامة العامل، وتتنافس الأيديولوجيات على تشريع القوانين التي تضمن الحريات وحقوق الإنسان، تبرز منظومة الإسلام في أبهى صورها، حيث سبقت الجميع بمفهوم متكامل يجعل من العمل جوهراً للكرامة الإنسانية، وركيزة أساسية للنهضة الفردية والجماعية.
فالإسلام لم يختزل العمل في أداء الفرائض والتكاليف الدينية فحسب، بل امتد به إلى معترك الحياة الواقعية، حيث يتحول الإيمان إلى حركة، والعقيدة إلى بناء، والطاعة إلى إنتاج.
وما أروع أنبياء الله ورسله وهم يضربون في الأرض، يحملون فؤوسهم وأدواتهم، ويشاركون الناس في كدّهم وسعيهم، فنبي الله داود "عليه السلام"، كان يأكل من عمل يده، ونبي الله سليمان "عليه السلام"، أدار أضخم منظومة صناعية سخّر لها حتى الجنّ والطير، في أعظم مشهد للإدارة والإنتاج.
ويأتي القرآن ليؤكد هذا المعنى حين يصوّر لنا النبي نوحاً "عليه السلام" وهو يصنع السفينة بيده بقوله تعالى ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾، ويمضي الحبيب محمد "صلى الله عليه وآله" ليجعل من العمل شرفاً لا ترفاً، فيرعى الغنم، ويتاجر بأمانة، ويحفر الخندق مع أصحابه في حرّ الظهيرة، ثم يُطلق توجيهه الخالد لكل الأجيال، "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها".
بهذا الفهم الرفيع، جاء الإسلام ليمنح العمل بعداً أخلاقياً وروحياً، ويجعل منه قيمةً عليا تحفظ الحقوق وتؤسس للواجبات.
أما الأيديولوجيات الغربية فقد سعت متأخرة لتحقيق ما بشّر به الإسلام منذ قرون، فتحدثت عن الحرية الفردية والكرامة البشرية، وحقوق العامل، لكنها لم تستطع أن تؤسس منظومة متكاملة كالتي جاء بها الإسلام.
وفي المجتمعات الصناعية القديمة، بدأ الحرفيون في المطالبة بحقوقهم، بينما بقي العمال الزراعيون والموظفون بعيدين عن التنظيم والحماية لفترات طويلة، حتى ظهرت النقابات والقوانين، وهي جهود تُحسب ولكنها جاءت متأخرة عن النموذج الإسلامي.
هذا وقد سبق الإسلام الجميع في حماية العامل وصون كرامته، وبنى حضارات شامخة على أساس ذلك، ففي العراق ومصر وبلاد الأندلس، ازدهرت الصناعات، وتنوعت الحرف، وازدهرت الزراعة، وامتلأت الخزائن بالمال الحلال المنتج بعرق الناس.
وقد اعترف بذلك كبار المفكرين الأوروبيين، ومنهم "جوتيه" الذي أقرّ بفضل العرب في كثير من الصناعات والاكتشافات، ومنها صناعة الجليد الصناعي، والبارود، والورق، وإبرة السفينة، بل ذهب إلى القول: "علينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدينة العربية".
كما نشط المسلمون في استخراج المعادن، وصناعة الأدوات والأسلحة والحلي والمنسوجات، وافتتحوا دوراً متخصصة للتطريز والوراقة، وأسسوا صناعةً للورق ازدهرت على أيديهم وانتقلت إلى الغرب، لتكون شرارة النهضة الأوروبية.
لقد كان العمل في الدولة الإسلامية شرفاً وقيمة، لا عبئاً أو وسيلة، وكان الإنتاج مدخلاً للحضارة، لا غاية مادية فحسب.
وبينما تناضل شعوب الأرض اليوم لتشريع ما يكفل العدالة والكرامة في العمل، يبقى الإسلام حياً في روحه ومضمونه، رائداً في رؤيته، نبيلاً في أهدافه، شاهداً على أن حضارة كبرى قد بُنيت ذات يوم بسواعد آمنت أن العمل عبادة، وأن الإنتاج عزة، وأن الكرامة لا تُشترى إلا بالجهد والتقوى.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الاجتماعي، ج1، ص38-41.