قال الكلباسيّ في قصّة ولادة العبّاس(ع) بعد ما أخذه أمير المؤمنين(ع): ثمّ ضمّه إلىٰ صدره وأخذ بيديه الصغيرتين ورفعهما إلىٰ فمه ولثمهما بقبلاته الساخنة واستعبر باكياً، وهو يقول: «كأنّي بيديه هاتين تقطعان يوم الطفّ عند مشرعة الفرات في نصرة أخيه الإمام الحسين(ع)» فاستعبرت أمّه ومن كان معها، وفوّضت أمره وأمرها إلىٰ الله تعالىٰ.
ثمّ قال: قيل: إنّه ما مضت أيّامٌ علىٰ ولادة أبي الفضل العبّاس(ع) حتى جاءت السيّدة زينب(ع) إلىٰ أبيها أمير المؤمنين(ع) يوماً وهي تحمل أخاها العبّاس، وقد ضمّته إلىٰ صدرها وقالت له: أبه، يا أمير المؤمنين، ما لي أرىٰ قلبي متعلّقاً بهذا الوليد أشدّ التعلّق، ونفسي منشدةٌ إليه أكبر الإنشداد ؟!
فأجابها أبوها أمير المؤمنينj بلطفٍ وحنانٍ قائلاً: «وكيف لا تكونين يا أبة، كذلك، وهو كفيلك وحاميك».
فقالت السيّدة زينب(ع) بتعجّبٍ: إنّه كفيلي وحاميني ؟!
فأجابهاj بعطفٍ وشفقةٍ: «نعم، يا بنيّة، ولكن ستفارقينه ويفارقك».
فقالت السيّدة زينبh باستغرابٍ: يا أبتاه، أيتركني هو أم أتركه أنا ؟!
فقال الإمام أمير المؤمنينj وهو يجيبها بلهفةٍ ولوعةٍ: «بل تتركينه يا بنيّة، وهو صريعٌ علىٰ رمضاء كربلا، مقطوع اليدين من الزندين، مفضوخ الهامة بعمد الحديد، ضامٍ إلىٰ جنب الفرات».فلم تتمالك السيّدة زينب(ع) نفسها لمّا سمعت ذلك حتّىٰ اعولت وصاحت: وا أخاه، وا عبّاساه[1].
إذن العبّاس j للجهاد
ما أجازه الحسين(ع) للقتال يوم عاشوراء: لم يفتأ لقمر بني هاشمj دؤبٌ علىٰ مناصرة الحقّ في شممٍ، وإباءٌ عن النزول علىٰ حكم الدنيّة منذ كان يرتضع لبان البسالة وتربىٰ في حجر الإمامة فترعرع ونصب عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النواميس الإلهيّة لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال فإمّا فوزٌ بالظفر وإما ظفرٌ بالشهادة فمن الصعب عنده النزول علىٰ الضيم، وهو يرىٰ الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياةٍ تحت نير الاضطهاد فكان لا يرىٰ للبقاء قيمةً، وإمام الحقّ مكثورٌ وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كلّ مبلغٍ، ولكن لمّا كان أنفس الدّخائر عند السبط الشهيد، وأعزّ حامته لديه وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر، ولوائه الخفاق، وبطولته المعلومة لم يأذن له إلىٰ النفس الأخير من النهضة المقدّسة فلا الحسينj يسمح به ولا العائلة الكريمة تألف بغيره، ولا الحالة تدعه لأن يغادر ويدع حرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.
هكذا كان أبوالفضل(ع) بين نزوعٍ إلىٰ الكفاح بمقتضىٰ غريزته وتأخّر عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمام(ع) حتّىٰ بلغ الأمر نصابه فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ، وكان ملؤ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارةً، ومن البلاء المقبل أخرىٰ، ومركز الإمامة دارت عليه الدوائر، وتقطّعت عنه خطوط المدد وتفانى صحبه وذووه هنالك هاج صاحب اللواء، ولا يلحقه الليث عند الهياج.
قال الطريحي: فلمّا رأىٰ أي: العبّاس(ع) جميع عسكر الحسين(ع) قتلوا، وإخوانه وبني عمّه بكىٰ وإلىٰ لقاء ربّه اشتاق وحنّ فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين(ع) وقال: يا أخي، هل من رخصة؟ فبكىٰ الحسينj بكاءً شديداً حتى ابتلّت لحيته المباركة بالدموع ثمّ قال: «يا أخي، كنت العلامة من عسكري، ومجمع عددنا فإذا أنت غدوت يؤول جمعنا إلىٰ الشتات، وعمارتنا تنبعث إلىٰ الخراب».
فقال العبّاس(ع): فداك روح أخيك يا سيّدي، قد ضاق صدري من الحياة الدنيا[2]، وأريد أخذ الثار من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين(ع): «إذا غدوت إلىٰ الجهاد فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.» فلمّا توسّط الميدان وقف وقال: يا عمر بن سعد، هذا الحسين بن بنت رسول الله(ص) يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه وبقي فريداً مع أولاده وهم عطاشىٰ قد أحرق الظمأ قلوبهم فاسقوه شربةً من الماء لأنّ أطفاله وعياله وصلوا إلىٰٰ الهلاك...فلمّا أوصل العبّاس إليهم الكلام عن أخيه فمنهم من سكت ولم يردّ جواباً، ومنهم من جلس يبكي فخرج الشمر وشبث بن ربعي لعنهما الله فجاءا نحو العبّاس وقالا: يابن أبي تراب، قل لأخيك لو كان كلّ وجه الأرض ماءً وهو تحت أيدينا ما أسقيناكم منه قطرةً إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد. فتبسّم العبّاس ومضى إلىٰ أخيه الحسين وعرض عليه ما قالوا فطأطأ رأسه إلىٰ الأرض وبكىٰ حتّىٰ بلّ أزيافه فسمع الحسين الأطفال ينادون: العطش، فلمّا سمع العبّاس ذلك رمق بطرفه إلىٰ السماء وقال: إلهي وسيّدي، أريد أعتد بعدتي وأملي لهؤلاء الأطفال قربةً من الماء.
فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه، وكان قد جعل عمر بن سعد لعنه الله تعالىٰ أربعة آلاف خارجيٍّ موكّلين علىٰ الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين يشربون منه فلمّا رأوا العبّاس قاصداً إلىٰ الفرات أحاطوا به من كلّ جانبٍ ومكانٍ فقال لهم: يا قوم، أنتم كفرةٌ أم مسلمون ؟ هل يجوز في مذهبكم أو في دينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء، والكلاب والخنازير تشرب منه، والحسين مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش أما تذكرون عطش القيامة.
فلمّا سمعوا كلام العبّاس وقف خمسمائة رجلٍ ورموه بالنبل والسهام فحمل عليهم فتفرّقوا عنه هاربين كما تتفرّق الغنم عن الذئب، وغاص في أوساطهم، وقتل منهم علىٰ ما نقل قريباً من ثمانين فارساً فهمز فرسه إلىٰ الماء، وأراد أن يشرب فذكر عطش الحسين وعياله وأطفاله فرمىٰ الماء من يده وقال: والله، لا أشربه وأخي الحسينj وعياله وأطفاله عطاشىٰ لا كان ذلك أبداً ثمّ ملأ القربة وحملها علىٰ كتفه الأيمن، وهمز فرسه وأراد أن يوصل الماء إلىٰ الخيمة فاجتمع عليه القوم.
وفي رواية ذلك عند المقرم انه قال: فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه فلم يجد أبو عبد الله بدّاً من الإذن حيث وجد نفسه لتسبق جسمه إذ ليس في وسعه البقاء علىٰ تلك الكوارث الملمّة من دون أن يأخذ ثاره من أولئك المردة فعرفه الحسين أنّه مهما ينظر اللواء مرفوعاً كأنّه يرىٰ العسكر متّصلاً والمدد متتابعاً، والأعداء تحذر صولته، وترهب إقدامه، وحرائر النبوّة مطمئنّةٌ بوجوده فقال له: «أنت صاحب لوائي، ولكن أطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء».
فذهب العبّاس إلىٰ القوم ووعظهم، وحذّرهم غضب الجبّار فلم ينفع فرجع إلىٰ أخيه وأخبره فسمع الأطفال يتصارخون من العطش فنهضت بساقي العطاشىٰ غيرته الشمّاء وأخذ القربة وركب فرسه وقصد الفرات فلم يرعه الجمع المتكاثر، وكشفهم شبل علي عن الماء، وملك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسين.[3] فرمىٰ الماء وملأ القربة، وحملها علىٰ كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيمة.
لقد وصل العبّاس إلىٰ المشرعة، وأقحم الماء فرسه، وملأ كفّه بالماء، واستروح كبده الملتهب رائحة الماء، وأحسّ ببرده إلاّ أنّه ذكر عطش أخيه فرمىٰ الماء من كفّه، وإنّما المقصود ظاهراً من: «ذكر» أي: لم يكن أبو الفضل j ناسياً حتّىٰ يذكر بل المراد أنّه تلا وقرأ لنفسه مصيبة عطش الحسين ، وأنشأ يقول: [4]
يا نَفْــــــــسُ من بعدِ الحسينِ هُوني |
|
وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني |
هذا حســــــــــــــــــينٌ واردُ المَنونِ |
|
وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ |
هَيْهَاتَ مَا هَذَا فِعالُ دِينِيٌّ |
|
وَلَا فِعالُ صَادِقُ الْيَقِينِ |
قال الحائري: لمّا ركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد الفرات وقد أحاط به أربعة آلافٍ، وفي روايةٍ ستّة آلافٍ، وفي الأسرار عشرة آلاف محاربٍ فحمل عليهم العبّاس وقتل منهم شجعاناً، ونكس منهم فرساناً وتفرّقوا عنه هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم، وصعد قومٌ علىٰ التلال والأكمات، وأخذوا يرمونه بالسهام حتّىٰ قال إسحاق بن جثوة لعنه الله: فثوّرنا عليه النبال كالجراد الطائر فصيّرناه جلده كالقنفذ، ومع ذلك كان كالجبل الأصمّ لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف فغاص العبّاس في أوساطهم وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وهو بينهم يرتجز ويقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا |
|
حتّىٰ أوارىٰ في المصاليت لقا |
نفسي لنفس المصطفىٰ الطهر وقا |
|
إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا |
ولا أخاف الشرّ يوم الملتقىٰ |
فتفرّقوا عنه هاربين فكشفهم عن المشرعة ونزل فهجموا عليه فخرج إليهم وفرّقهم ثمّ عاد إلىٰ المشرعة فحملوا عليه ثانياً فكرّ عليهم العبّاس علىٰ ما في بعض الكتب ومنها: الكبريت الأحمر إلىٰ ستّ مرّاتٍ[5]، وفي السادسة انصرفوا ولم يرجعوا فنزل وملأ القربة، وأراد أن يخرج نادىٰ عمرو بن الحجّاج لعنه الله دونكم العبّاس فقد حصل بأيديكم فكثرت عليه الرجال فلمّا رأىٰ العبّاس وقد تسارعوا إليه حطّ القربة، وخرج من المشرعة واستقبل القوم يضربهم بسيفه، وكأنّه النار في الأحطاب وهو يقتلهم ويحصدهم حصد السنبل..وهو يرتجز ويقول:
شهادة العبّاس
اتّجه أبو الفضل العبّاس نحو المخيّم بعد ما ملأ القربة، والتحم مع أعداء الله التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانبٍ وهم أربعة آلافٍ أو أكثر ليمنعوه من إيصال الماء إلىٰ عطاشىٰ آل النبي(ص) فركب عمر بن سعد لعنه الله وزحفت في أثره الأعلام، ووصلت الخيل والرجال إلىٰ العبّاس، وقد أدركته الخيل والرماح كآجام القصب، وجعل العبّاس ينادي: «يا أعداء الله، لئن قتلنا فلقد قتلنا منكم أضعافاً»، وصار يضرب فيهم يميناً وشمالاً، ويجدل الفرسان وينكس الأبطال وقتل منهم خلقاً كثيراً، والقربة علىٰ ظهره فلمّا نظر ابن سعد ذلك نادىٰ: ويلكم ارشقوا القربة بالنبل فوالله، إن شرب الحسين الماء أفناكم عن آخركم أما هو الفارس بن الفارس البطل المداعس فحملوا عليه حملةً منكرةً، وروي أنّه قتل منهم مقتلة كثيرة.
أقول: ولعمر الله، لو لم يكن ما جرىٰ علىٰ اللوح أن يستشهد العبّاس في ذلك اليوم حتّىٰ ينكسر لفقده ظهر الحسين، وينال الشهادة لأفنىٰ العبّاس جميع أهل الكوفة بشماله دون يمينه، وقد صرّع الأبطال والشجعان بشماله ممّن يعدّ بألفٍ أو ألفين: [6]
فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، وثوّروا عليه النبال كالجراد المنتشر فلم يبال بهم ولم ترعه كثرتهم وأخذ يكردهم وحده، ولواء الحمد يرفّ علىٰ رأسه، وهو يحصد رؤوسهم ويضرب فيهم بسيفه ويقول:
لا أرهبُ الموتَ إذا المـوتُ زَقَا |
|
حتَّى أُوارى في المَصاليتِ لِقَى |
نفسي لِسِبطِ المُصْطَفى الطُّهرِ وِقا |
|
إنّي أنا العبَّاس أغْدُو بالسِقَا |
ولا أخافُ الشرَّ يومَ المُلتقى |
فكمن له الخبيث زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلةٍ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ولم يستقبلاه بوجهه فضربه علىٰ يمينه فبراها فحمل العبّاس القربة علىٰ كتفه الأيسر، وأخذ السيف بشماله، وجعل يقاتل ويضرب فيهم ويقول:
واللهِ إن قَطعتُمُ يمينــــي |
|
إنّي أُحامِي أَبَداً عن دِيني |
وعنْ إمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ |
|
نَجْلِ النّبيِّ الطــاهِرِ الأَمينِ |
وتقدّم العبّاس قليلاً فكمن له الرجس الخبيث حكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلةٍ فضربه علىٰ يساره فبراها من الزند.
فحمل القربة بأسنانه، وضمّ اللواء إلىٰ صدره، وجعل يركض ليوصل الماء إلىٰ عطاشىٰ أهل البيت(ع).
فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السهام كالمطر فأصاب القربة سهمٌ وأريق ماؤها، وسهمٌ أصاب عينه، وسهمٌ أصاب صدره، وشدّ عليه رجسٌ خبيثٌ، وضربه بعمودٍ من حديدٍ علىٰ رأسه الشريف ففلق هامته:
وهوىٰ إلىٰ الأرض، وودّع أخاه الوداع الأخير فنادىٰ: «عليك منّي السلام يا أبا عبد الله».
فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر إذا انحدر علىٰ فريسته ففرّقهم يميناً وشمالاً فرآه مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ الجبين، مشكوك العين بسهمٍ، مرتثّاً بالجراحة فوقف عليه منحنياً، وجلس عند رأسه يبكي، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث، وقال: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي»[7].
قال المقرّم: فأتاه الحسين(ع) ويا ليتني علمت بماذا أتاه، أبحياةٍ مستطارةٍ منه بذلك الفادح الجلل أو بجاذبٍ من الأخوّة إلىٰ مصرع صنوه المحبوب.نعم، حصل الحسينjغده وهو يبصر هيكل البسالة، وقربان القداسة فوق الصعيد، وقد غشيته الدماء السائلة وجلّلته النبال، ورأىٰ ذلك الغصن الباسق قد الم به الذبول فلا يمين تبطش، ولا منطق يرتجز، ولا صولة ترهب، ولا عين تبصر، ومرتكز الدماغ علىٰ الأرض مبدّدٌ..
أصحيحٌ أنّ الحسينj ينظر إلىٰ تلكم الفجائع ومعه حياةٌ تقدمه أو عافيةٌ تنهض لا والله لم يبق الحسينj بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً معرّىٰ عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام الله عليه عن هذا الحال بقوله:«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي».