وسط موجات الاستشراق التي اجتاحت أوروبا في القرن التاسع عشر، بزغ نجم المستشرق الألماني "كارل بروكلمان" (1868 – 1956م) كأحد أعمدة هذا التيار البحثي، واضعاً بصمته العميقة في مجالات اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي، حتى استحق أن يُلقب بـ"شيخ المستشرقين الألمان".
وُلد بروكلمان في مدينة "روستوك" الألمانية، وتتلمذ على كبار المستشرقين وعلى رأسهم "تيودور نولدكه"، فبرع في اللغات السامية ونبغ في قراءة وكتابة العربية الفصحى، كما درّس في كبرى الجامعات الألمانية مثل برلين، برسلاو، وهالا، وانتمى إلى نخبة من المجامع العلمية حول العالم، من دمشق إلى بودابست.
لكن أكثر ما خلّد اسمه في سجل الدراسات الإسلامية هو إنتاجه الغزير، إذ خلّف أكثر من (٥٥٥) مؤلفاً، أبرزها كتابه المرجعي الشهير "تاريخ الشعوب الإسلامية"، الذي قدّم فيه عرضاً شاملاً لمسيرة المسلمين منذ فجر الرسالة حتى عام 1939م.
وحين نتتبع إشارات بروكلمان إلى حدث عاشوراء وثورة الإمام الحسين "عليه السلام"، نجد وصفاً بارداً، يفتقر إلى العمق القيمي الذي تُجسّده كربلاء في الضمير الإسلامي، إذ يختصر الواقعة بأنها "محاولة لم تكتمل" نتيجة قلة الدعم، دون أن يتوقف عند المعاني الكبرى للثورة كمقاومة الظلم، وإصلاح الأمة، والتضحية بالذات في سبيل الحق والعدالة.
يقول بروكلمان عن سيد الشهداء "عليه السلام": إنه "كان من زعماء الأرستقراطية الإسلامية الذين رفضوا بيعة يزيد، لكنه لم يجد في العراق التأييد الذي توقعه".
هذا الوصف يُسقِط الثورة من كونها حركة إصلاحية عقائدية إلى مجرد تمرّد سياسي، متجاهلاً السياقات الأخلاقية والدينية العميقة التي دفعت سبط رسول الله "صلوات الله عليهما" للمضي نحو كربلاء.
وعلى الرغم من رصانة بروكلمان الأكاديمية، إلا أن رؤيته لكربلاء تعكس انفصالاً معرفياً عن البنية الروحية للتاريخ الإسلامي، وهو انفصال وقع فيه كثير من المستشرقين نتيجة اعتمادهم على مصادر محدودة أو رؤى متحيزة، وحتى حين وصف الحسين بأنه من "الأرستقراطيين"، فإن ذلك يستند إلى فهم اجتماعي سطحي، لا يُدرك أن الحسين كان يعايش الفقراء ويجالسهم، بل خرج ثائراً لأجلهم.
وبذلك، تغيب عن بروكلمان فلسفة الثورة الحسينية باعتبارها لحظة فارقة في تاريخ الضمير الإنساني، لا مجرد حدث سياسي محكوم بالفشل.
ومن العدل القول إن بروكلمان قدّم خدمات جليلة للدراسات الإسلامية، وكان مرجعاً للباحثين من الشرق والغرب، لكن من الإنصاف أيضاً الإشارة إلى قصور رؤيته تجاه بعض القضايا الكبرى في تاريخ الإسلام، وعلى رأسها ثورة الإمام الحسين "عليه السلام".
فما بين الحياد العلمي والتحيّز الضمني، تبقى أعمال المستشرقين بحاجة دائمة إلى قراءة نقدية متعمقة تعيد الأمور إلى نصابها، وتُنصف القيم التي سُقيت بدماء الطف.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، 2020، ج8، ص104-111.