في خضم التحولات المتسارعة في مفاهيم التخطيط الحضري، برز ما يُعرف بـ "البُعد الثالث للمدن" كأحد العوامل الحاسمة في تشكيل الهوية البصرية والمعمارية للمدن الحديثة في الوقت الراهن.
ولما كانت الخرائط التقليدية تكتفي بتحديد الاستعمالات عبر بُعدين فقط "الطول والعرض"، فإن البُعد الثالث – أي الارتفاع – بات اليوم مقياساً جوهرياً في تخطيط المدن، لا سيما في المناطق الحيوية ومراكز المدن التاريخية والدينية.
وضمن سياق التاريخ المعماري، فقد توسعت المدن أفقياً مع الزمن، مما أدى إلى اتساع المساحات وتشتت الخدمات وصعوبة إدارتها، وخصوصاً مع ارتفاع كلفة توصيل البنى التحتية إلى الأطراف البعيدة، إلا أن دخول التكنولوجيا ومواد البناء الحديثة مثل الخرسانة المسلحة غيّرت المعادلة بالكامل، فبدأ التوجه نحو البناء العمودي كحل اقتصادي وفعّال، خاصة في قلب المدن حيث الأرض ذات قيمة عالية.
كما أسهمت تقنيات البناء المُسبق الصنع في تسريع عمليات التشييد، وجعلت من الممكن تشييد بنايات شاهقة في مدد زمنية قصيرة، ما أدى إلى ثورة عمرانية متكاملة تُدار عبر ثلاثة أبعاد لا اثنين فقط.
وفيما يخص كربلاء المقدسة، بوصفها مدينة ذات خصوصية دينية وتاريخية بالغة الأهمية، فإنها تُعد مثالاً مميزاً في فهم وتوظيف البُعد الثالث في التخطيط الحضري، فلم يكن اختيار ارتفاعات القباب والمآذن عشوائياً، بل كان نتاج دراسة دقيقة لتحافظ المدينة على هيبتها الروحية ومكانتها الرمزية.
هذا وترتفع قبة مرقد الإمام الحسين "عليه السلام" بحوالي (26) متراً عن مستوى الشارع، فيما يبلغ إرتفاع مآذن المرقد حوالي (34) متراً.
أما قبة مرقد أبي الفضل العباس "عليه السلام"، فتصل إلى (30) متراً، فيما تعلو مآذنه إلى حدود (40) متراً.
وفيما يخص جدران الضريحين الشريفين، فقد رُوعي أن لا تتجاوز (11.5) متراً، بناءً على دراسة أُعدت سنة 1979 – 1980 ضمن مشروع تطوير منطقة ما بين الحرمين.
كل هذه الأبعاد لم تأتِ عبثاً، بل لتمنح الزائر منظراً بانورامياً يعزز الرهبة والقدسية، ويسمح لرؤية الشواخص الدينية من مختلف زوايا المدينة.
لا تقف أهمية البُعد الثالث عند الناحية الجمالية، بل تتعداها إلى كونه وسيلة لحماية "العلامات الفارقة “Landmarks للمدينة، فالشواخص المعمارية مثل القباب والمآذن لا تكتفي بتحديد الهوية العمرانية، بل تُحاط بعناية بتشريعات صارمة تحدد ارتفاعات الأبنية المجاورة، لتبقى هذه المعالم مرئية من مسافات بعيدة.
وتعمل الجهات التخطيطية في كربلاء على حماية محاور الرؤية والحركة باتجاه هذه الشواخص، لتعزيز انسيابية المشهد البصري والحفاظ على طابع المدينة الروحي والهيكلي.
المصدر: محمد علي حسن الأنباري، الهيكل العمراني لمدينة كربلاء، 1988، ص2-5.