في زحام السِيَر النبوية، كثيراً ما تتوارى الظلال العظيمة خلف الأضواء، غير أن شخصية أبي طالب (عليه السلام)، عمّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وراعيه في أحلك الظروف، لا تزال تقف شامخة كصخرة صمّاء صمدت في وجه الطغيان المكي، وكانت درعاً وسنداً للإسلام في أولى مراحله الحرجة.
ولد أبو طالب في مكة، قبل ولادة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بخمس وثلاثين سنة، ونشأ مهيباً جليلاً، تجتمع فيه ملامح الزعامة، من وقار الحكماء وهيبة الملوك، فهو عبد مناف بن عبد المطلب، المعروف بكنيته "أبو طالب"، وهو من كان ينظر إليه كزعيم بني هاشم وسيد البطحاء.
عند وفاة عبد المطلب، تولّى أبو طالب كفالة إبن أخيه (صلى الله عليه وآله)، لكنه لم يكتفَ بتأمين الطعام والملبس، بل جعل من نفسه حارساً شخصياً للوحي القادم، حتى صار لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، وكان لا يُطعِم أبناءه حتى يُحضَر "ابني" -كما يسميه- ليأكل معهم، فيبقى الطعام ببركته.
حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) وصفه بأنه "آخر من بقي من أصحاب رسول الله، وكان منقطعاً إلينا أهل البيت".
لم يكن أبو طالب زعيم قبيلة فحسب، بل كان من أعلم أهل زمانه بشأن النبي وبالناموس الإلهي، وكما ورد في كتب السير: "لولا أبو طالب لما قام للإسلام عمود، ولا وصلت الرسالة إلى الناس".
لقد كان مؤمن قريش (عليه السلام) حافظاً للوصايا الإلهية، سلّمها إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، ليكون بذلك أحد الحلقات المفصلية في سلسلة النور التي ربطت الرسالة الإبراهيمية بالخاتمية.
في نهاية العام العاشر من البعثة، وبعد الخروج من شِعب أبي طالب، توفي هذا الرجل العظيم عن عمر ناهز الثمانين، وبعده بثلاثة أيام، لحقت به السيدة خديجة (عليها السلام)، فكان ذلك العام هو "عام الحزن"، كما سماه النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه، وقال بألم: "ما زالت قريش تكف عن أذاي حتى مات أبو طالب".
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشاملة، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، ج4، ص43-48.