في عملٍ موسوعيٍّ يفيض بالعلم والانتماء، يخطّ الشيخ "محمد النويني الغراوي" صفحات مشرقة من التاريخ والهوية في مؤلفه "أضواء على معالم محافظة كربلاء" والذي يُعدّ مرجعاً مهمّاً لكل من أراد التعرّف على المدن العربية والإسلامية، من خلال دراسة معمّقة تجمع بين الجغرافيا، والتاريخ، والأدب، والحياة الاجتماعية، والاقتصادية.
هذا الكتاب الذي امتدّ بأجنحة المعرفة من كربلاء إلى النجف فالكوفة، لا يقدّم معلوماتٍ جامدة، بل يرسم صوراً حيّة لمدنٍ كانت ولا تزال منارات في سماء الإسلام.
يبدأ الكتاب من كربلاء، مركز المحافظة الذي يُعد من أهم الحواضر الدينية في العالم الإسلامي، متناولاً موقعها الجغرافي وتطور تسميتها عبر العصور، مروراً بمدنها الفرعية، لا سيما الحسينية وعين التمر، ليبرز دور هذه المدن في الحراك الديني والزراعي والتاريخي، مما يعكس الأهمية المتزايدة لكربلاء في خارطة العراق الثقافية والدينية.
ثم ينتقل الكاتب إلى النجف الأشرف، فيصفها بأنها "الينبوع الغزير للعلوم والمعارف" منذ أن وطأها الشيخ الطوسي عام 448 هـ، وحتى يومنا هذا، حيث بقيت مدينة تشع بالعلم عبر مكتباتها، ومدارسها، ومراجعها، واضعاً إياها في مصافّ الحواضر الفكرية الكبرى، وموثّقاً لمعالمها البيئية وخصائصها الاجتماعية، ومعلّقاً على تفردها بجفاف مناخها وبعدها عن ضوضاء المدن الحديثة، مما جعل منها بيئة مثالية للتأمل والدراسة.
ولم ينسَ المؤلف أن يورد أبياتاً رائعة لشعراء عاصروا النجف وعبّروا عن قدسيتها ومكانتها، ومنهم السيد "مهدي الأعرجي" والأديب "إبراهيم الموصلي"، إذ قال الأخير:
كان تربته مسك يفوح به أو عنبرٌ دافه العطارُ في صدفِ
الشيخ النويني لم يقتصر على سرد الماضي، بل رصد بإمعان التحولات العمرانية والاقتصادية التي شهدتها النجف خصوصاً بعد ثورة 14 تموز، ومنها مشاريع الحزام الأخضر، وتوسيع البنى التحتية، وتوفير الماء والكهرباء، في زمنٍ كانت فيه هذه المشاريع من الأحلام المؤجلة.
ثم يختم الشيخ رحلته بمدينة الكوفة، التي أفرد لها فصلاً زاخراً بالفضائل، فهي المدينة التي قال عنها الإمام علي "عليه السلام": "الكوفة كنز الإيمان، وحجة الإسلام، وسيف الله ورمحه، يضعه حيث يشاء"، بل يروي عن سلمان الفارسي قوله "أهل الكوفة أهل الله، وهي قبة الإسلام، يحنّ إليها كل مؤمن".
إن كتاب الشيخ محمد النويني ليس مجرد دراسة تاريخية، بل هو مشروع توثيقي ضخم يدمج ما بين السرد الموضوعي واللغة الأدبية، ويمنح القارئ فرصة لفهم هذه المدن على المستوى الروحي والثقافي، عبر رؤية واعية، ثرية، وموثقة.
المصدر: محمد النويني، أضواء على محافظة كربلاء، مطبعة القضاء، النجف الأشرف، 1971، ص7-9.