عندما يُنظَر إلى خريطة محافظة كربلاء المقدسة، لا تُرى مجرد خطوط وحدود، بل يُقرأ تاريخاً طبيعياً صامتاً من الانبساطات والمرتفعات، من السهول الرسوبية إلى الحافات الصخرية المتقطعة، فمظاهر السطح في كربلاء ليست مشهداً جغرافياً فحسب، بل هي مفتاح لفهم كيفية استغلال الأرض وتفاعل الإنسان مع الطبيعة على مدى القرون.
وفي ظل تصاعد الاهتمام بالبيئة والتخطيط العمراني، يقدم مركز كربلاء للدراسات والبحوث وعبر موسوعته الحضارية الشاملة لمدينة سيد الشهداء "عليه السلام"، قراءةً علميةً دقيقة للتضاريس التي تشكّل العمود الفقري للمحافظة، كاشفاً كيف أن السطح يرسم حدود الإمكانيات الزراعية، ويحدد أنماط البناء، بل وحتى يحاكي روح المكان وتاريخه.
ويبين المحور الجغرافي من الموسوعة، أن كربلاء تنقسم إلى منطقتين تضاريسيتين بارزتين، أولهما السهل الرسوبي الذي يعد رئة الزراعة وموطن الاستقرار.
يقع هذا السهل شرقي المحافظة، حيث تمتد الأراضي المنبسطة بألوان الطين والغرين، التي نقلها نهر الفرات بفيضاناته المتكررة، ففي كربلاء، يقع قضاءا الحسينية، والهندية، حيث تنبض الحياة الزراعية وتتوزع القرى والحقول على طول جدول الحسينية وبني حسن، وتُعرف هذه المنطقة بـ "كتوف الأنهار"، وهي مناطق مرتفعة نسبياً (3-4 م) تحاذي مجرى النهر، وتمنح الأرض خصوبة وقدرة على الاحتفاظ بالمياه.
أما ثاني هذه التضاريس، فهي الهضبة الغربية، والتي تتربع على القسم الغربي والجنوب الغربي، حيث تلتقي الصحراء بالزمن، في مشاهد من الصخور الكلسية، وأحجار الصوان، والانحدارات الهادئة التي تنتهي ببحيرة الرزازة.
في هذه الهضبة، تكمن ناحيتيّ الحر وعين التمر، كمناطق تُعرف بندرة الغطاء النباتي وكثافة الأودية الموسمية التي حفرت مجاريها بفعل السيول والرياح، كما أن الكثبان الرملية الممتدة على شكل نطاقات طولية لا تحكي فقط عن الجفاف، بل عن مقاومة الطبيعة وتحولات الأرض على مدى آلاف السنين.
ليست هذه المشاهد مجرد بيانات طبوغرافية، بل تؤثر بعمق على نمط حياة السكان، من مواقع التجمعات السكنية، إلى أنماط الري والزراعة، وحتى إمكانية الحفر للمياه الجوفية، فضلاً عن أن هذه التضاريس تفرض حدوداً على التوسع العمراني، وتفتح آفاقاً جديدة للاستثمار البيئي والسياحي، وخاصةً في المناطق الغربية ذات الطبيعة الفريدة.
وفي ظل تطوّر علم الجغرافيا وتطبيقاته الحديثة، تأتي أهمية فهم مظاهر السطح كأداة استراتيجية للتخطيط، والتنمية المستدامة، والحفاظ على التنوع البيئي. وهذا ما يسعى إليه مركز كربلاء للدراسات والبحوث عبر دراسات علمية ميدانية تضع الطبيعة في صلب مشروع بناء المدينة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الجغرافي، 2017، ج1، ص52-55.