مرّت نهضةُ الإمام الحسين (عليه السلام) بمحطّاتٍ عديدة شكّلت بأجمعها فصول هذه النهضة الخالدة التي بقي وسيبقى نورُها يُضيءُ لتهتدي به البشريّة، ومن تلك المحطّات هي خروجه من مكّة الى العراق لبداية رحلة العشق الإلهيّ، التي سبقها تركه مدينةَ جدّه رسول الله والتوجّه الى مكّة، وكان ذلك في اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام سنة (60هـ) يوم التروية.
على أثر الرسائل الكثيرة التي أرسلها أهلُ الكوفة إلى الإمام الحسين(عليه السلام) عندما كان في مكّة المكرّمة، ارتأى (عليه السلام) أن يُرسل مندوباً عنه إلى الكوفة فوقع الاختيار على ابن عمّه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، ومنذ وصوله الى الكوفة، راح يجمع الأنصار ويأخذ البيعة للإمام الحسين(عليه السلام) ويوضّح أهداف الحركة الحسينيّة، ويشرح أهداف الثورة لزعماء الكوفة ورجالاتها، فأعلنت ولاءَها للإمام الحسين(عليه السلام)، وعلى أثر تلك الأجواء المشحونة، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين(عليهما السلام) يحثّه بالمسير والقدوم إلى الكوفة.
جمع الإمامُ الحسين(عليه السلام) نساءه وأطفاله وأبناءه وإخوته وأبناء أخيه وأبناء عُمومَته، وشدَّ (عليه السلام) الرّحَالَ وقرَّر الخروج من مكّة المكرَّمة،خرج الحُسينُ(عليه السلام) من مكّة وأرسل يزيدُ بن معاوية(لعنهما الله) عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة إلى مكّة في عسكرٍ عظيم وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحجيج كلّهم، وأوصاه بإلقاء القبض على الحسين(عليه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فلمّا علم الحسين(عليه السلام) بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرةً مفردة وعزم على التوجّه إلى العراق؛ مخافةَ أن يُقتل غيلةً فيكون سبباً لهتك حرمة البيت العتيق فإنّ يزيد لا يتورّع عن ذلك، فقال(عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية: (يا أخي قد خفْتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت).
وليلة خروجه من مكّة خطب خطبته الشهيرة فقال(عليه السلام):
(الحَمدُ للهِ، ومَا شاءَ الله، ولا قُوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله.. خُطّ المَوتُ على وُلدِ آدم مخطّ القِلادَة على جِيدِ الفَتاة، وما أولَهَني إلى أسلافي اشتياقَ يَعقُوبَ إلى يوسف، وخيرٌ لي مَصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطِّعُها عسلانُ الفلوات بين النّواوِيسِ وكَربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفا، وأجربةً سغبا. لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ بالقلم، رِضا الله رِضَانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفِّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرُّ بهم عَينه، وينجزُ بهمْ وَعدُه، من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقَاء الله نفسه، فلْيَرْحَلْ مَعَنا، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله).