في عام 1042هـ، كان العراق يشهد توترات حادة نتيجة الصراع المستمر بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، وهي صراعات ذات طابع سياسي وديني، في تلك الفترة، ارتكب السلطان العثماني مراد الرابع مجزرة مروعة في بغداد، استهدفت السكان الشيعة بشكل خاص، حيث تشير الروايات إلى مقتل زهاء ثلاثين ألف شخص من أتباع مذهب اهل البيت ( عليهم السلام )أثارت هذه الحادثة غضب الشاه صفي الدين الصفوي، الذي رأى فيها اعتداء صريحا على كرامته وسيادته، فضلًا عن كونها جريمة بحق أتباع مذهبه.
اعتبر الشاه صفي الدين المجزرة بمثابة تحدٍ مباشر لحكمه ومكانة دولته كحامية للتشيع، مما دفعه للتخطيط لحملة عسكرية واسعة النطاق لاستعادة العراق، بعد التحضيرات الدقيقة، بدأ الشاه حملته التي استهدفت في البداية استعادة بغداد من السيطرة العثمانية، وبالفعل، تمكن من دخول بغداد بعد معارك شرسة مع القوات العثمانية، التي كانت تستميت في الدفاع عن المدينة باعتبارها بوابة النفوذ العثماني في العراق ثم توجه لكربلاء.
عندما وصل الشاه صفي الدين إلى كربلاء، بدأ بزيارة مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام. جثا عند العتبات المقدسة وقبّل أضرحتها بإجلال، ثم قدم النذور والهدايا تعبيرا عن ولائه واحترامه العميق لأهل البيت، أدرك الشاه أهمية إعمار المراقد المقدسة، فأمر فورا بإجراء عمليات ترميم وتوسعة شاملة داخل الحرم الحسيني الشريف، شملت هذه العمليات توسيع المسجد الكبير داخل الحرم، وبناء الرواق الشمالي الذي عُرف فيما بعد برواق الشاه أو رواق الملوك، أصبح هذا الرواق مكانا مميزا دُفن فيه عدد من الملوك القاجاريين مثل مظفر الدين، ومحمد علي، وأحمد.
لم يقتصر اهتمام الشاه صفي الدين على التوسعة الداخلية فقط، بل امتد إلى تحسين البنية التحتية المحيطة بالحرم الحسيني. قام بشراء الأراضي المجاورة وتوسيع مساحة الصحن الشريف عبر هدم السور الشمالي القديم، عهد بإشراف هذه المشاريع إلى وزيره قزاق خان بيكلر بيكي، الذي قاد عمليات البناء بدقة واهتمام بالغ، تم إنشاء حجرات جديدة على طول الجهة الشمالية من الصحن، وأضيفت أروقة مع ديوان صغير أمام كل حجرة، وسط هذه الحجرات، شُيّد إيوان كبير مزين بالكاشي الفاخر، الذي عُرف بإيوان (صافي الصفا) أو (إيلوان إيلو)، نسبة إلى الشاه نفسه.
إلى جانب هذه الجهود، أولى الشاه عناية كبيرة بمرافق المدينة الأخرى، وسّع أعمال الترميم لتشمل الصحن الحيدري الشريف في النجف الاشرف وروضة الإمامين الجوادين في الكاظمية، كما حرص على تعزيز الأمن والاستقرار في كربلاء، التي عانت طويلًا من غارات القبائل البدوية، أمر الشاه ببناء أبواب قوية تحيط بأسوار بالمدينة، مما وفر حماية للزوار المتوافدين من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
لضمان راحة الزوار، وجّه الشاه بحفر قنوات مائية لتحسين إمدادات المياه في المدينة، كما أمر ببناء خانات لاستقبال الحجاج، ما ساعد على تخفيف معاناتهم وخلق بيئة أكثر ملاءمة لاستقبال الأعداد المتزايدة منهم،لم يكن اهتمام الشاه صفي الدين بكربلاء مجرد واجب ديني، بل كان أيضا جزءا من استراتيجية لتعزيز الهوية الشيعية في المناطق الخاضعة لحكمه، ما جعل كربلاء واحدة من أبرز المدن التي استفادت من الدعم الصفوي.
رغم الصراعات المستمرة بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، والتي أثرت على سيطرة الصفويين على بعض المناطق العراقية، كان الشاه صفي الدين حريصا على كسب دعم السكان المحليين، الذين وجدوا في اهتمامه بالمدينة وعتباتها المقدسة سببا للإخلاص والولاء لحكمه، أسهمت هذه السياسة في تعزيز مكانة كربلاء كمركز ديني وروحي، واستمر إرث الشاه في المدينة ليكون علامة فارقة في تاريخها.
راجع
محمد حسن مصطفى الكليدار آل طعمة،مدينة الحسين،ضبط ومراجعة وإصدار مركز كربلاء للدراسات والبحوث،2016،ط1،ج3،ص59
زين العابدين سعد عزيز