إن الإصرار على ممارسة الشعائر الحسينية والحرص الشديد على ديمومتها لم يأتِ من فراغ أو إنه يُمارس ممارسةً عشوائيةً أو عبثية أو إنه مجرد تفريغ شحنة من الشحنات العاطفية في النفوس من تلك التي خلفتها الأحداث والوقائع الأخرى، بل هي نتيجة طبيعية معقولة لما أفرزته أهداف ومضامين ونوايا ومقاصد النهضة الحسينية العظيمة وما عكست من صور جميلة يتعذر على التاريخ والشخصيات الإتيان بمثلها أو رسم مثيل لها.
أن الشعوب دائماً تبحث عن الحرية بل شديدة التعطش أحيانا لها وللعيش الرغيد والحياة الكريمة السعيدة المحاطة بالأمن والاستقرار والاطمئنان والتمتع بالسيادة التامة، وبما أنها عانت أقسى المعاناة من ظلم وجور الحكام المستبدين، فـبدأت تفتش عن وسيلة لترسم لها خط الوصول إلى الانتفاضة والوقوف في وجه الطغيان والجهل، لذلك التجأت إلى إحياء ذكرى عاشوراء لتدرك بأنها تحيا حياة الأحرار وتبرهن بأنها ما زالت تقف على ربوة عالية من ربوات الإرشاد والإصلاح والفلاح لتشاهد بعين البصيرة والتفكر الجاد وبتمعن مسرح الثورة، فيستمر الترابط التاريخي وتنمو روح التواصل مما يدعو لأن تطبق الأجيال بنود المنهج الذي أعلنه سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصر على تطبيقه ثم استشهد من أجل ذلك ليرسم بالدم أعظم وأجل صور التضحية والإباء.
أن تلك الأجيال ستتجه بذواتها وبأحاسيسها ومشاعرها إلى مدينة كربلاء المقدسة مسرح الحدث لأن كربلاء موطن الطهر والقداسة ومركز إشعاع تنبثق منها توهجات الشعائر الحسينية وتتطاير شذرات وميضها لتنتقل من بقعة إلى اخرى ويلف المدن والبلدان دون تحديد أو توقف، وحين اكتشفت تلك الأجيال سر هذا النور وامتزاجه بأرض كربلاء المقدسة ازداد اشتياقا لأن تقدم إلى كربلاء المقدسة وتقيم فيها أو تؤدي الزيارة ثم تعود وحين تعسر عليها ذلك لبعد المسافة أو لأسباب أخرى صارت تُسكِنُ كربلاء بعمق عقولها وضمائرها.
هذه الصورة تعكس لنا حقيقة يفصح مضمونها عن أمر معين وهو: لم يكن إطار شمولية النهضة الحسينية يضم في حدوده فئة معينة دون أخرى ولم يقتصر ترتيبها وترسيخ العقيدة بواسطتها على المسلمين فحسب بل امتدت لتجتاز أقصى حدود العالم وتخترق كل الأسوار وكل الحصون مهما كانت رصينة ومتينة.