في عمق الجغرافيا الروحية والتاريخية للعراق، تستقر مدينة كربلاء ليس فقط كموطن لأقدس تضحيات الإسلام، بل أيضاً كفسيفساء لغوية وتاريخية متعددة التسميات والأبعاد.
ومن أبرز التسميات التي تناولها كبار المؤرخين واللغويين عن مدينة سيد الشهداء "عليه السلام"، هي "الطف"، و"طسج النهرين"، و"بوابة السواد"، وغيرها من الأسماء التي تكشف عن دور المدينة كمحطة استراتيجية وثقافية عبر العصور.
ويروي المؤرخ والأديب الشهير "ياقوت الحموي" أن "الطف" من الأسماء القديمة لكربلاء، مبيّناً أن معنى الكلمة في لسان العرب يشير إلى كل أرض مرتفعة تشرف على ريف العراق، وبما أن كربلاء كانت تطل من مرتفعات بابل على وديان العراق الخصبة، فقد عُرفت بهذا الاسم.
أما تسمية "طف الفرات"، فكانت تدل على ضفاف النهر، أي الشاطئ الغربي الذي سكنه النبل والرماد والماء.
ويرى آخرون أن اسم "الطف" جاء من طبيعة الأرض التي تعلو ما حولها، وهي تمتد – بحسب بعض الروايات – من الأنبار إلى الحيرة، مما يعزز فرضية إشراف كربلاء جغرافياً على الأرض المعروفة بـ "السواد".
وفي تحول دلالي آخر، تشير كتب التاريخ إلى أن كربلاء عُرفت أيضاً باسم "طسج النهرين"، حيث يفسر المؤرخون هذه التسمية بسبب وقوع المدينة بين نهر الفرات وخندق دفاعي ضخم حفره الملك الساساني "سابور" قبل الإسلام بحوالي مئتي عام، لصد هجمات القبائل العربية المتسللة من الصحراء.
وكان هذا الخندق يمتد من كربلاء إلى الإبلة في البصرة، وصولاً إلى "كاظمة" في الكويت، وقد شكل حاجزاً طبيعياً وعسكرياً على مر الزمن.
لطالما شكّلت كربلاء المدخل الطبيعي لأرض السواد، تلك الرقعة الخضراء الخصبة التي أطلق العرب هذا الاسم عليها لوفرة الزراعة والمياه. فحين كانت القبائل العربية تفد من الصحراء، لم يكن أمامها للوصول إلى بابل أو باقي الحواضر العراقية، إلا المرور بكربلاء، التي تحولت مع الوقت إلى بوابة العبور من البادية إلى الحَضَر، ومن الفراغ الرملي إلى نواة الحضارة.
واللافت أن تعدد الأسماء التي أطلقت على كربلاء لا يعكس التناقض، بل الغنى التاريخي والجغرافي والسياسي، فليست كل التسميات متساوية في الشهرة أو الاستعمال، حيث ساد بعض هذه الأسماء بسبب قدمه، وبعضها الآخر لارتباطه بأحداث محورية في تاريخ المنطقة، فكربلاء كانت دوماً جزءاً من هذا المشهد المتغير، وظلت تسمياتها المتعددة شاهدة على عصور من التفاعل الثقافي والسياسي والديني.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ القديم، ج1، 2017، ص39-40.