تحتفظ محافظة كربلاء المقدسة بتاريخ طويل ضارب في عمق الزمن، يشهد على تنوّع حضاراتها وتجدّد هويتها العمرانية والدينية، حيث لم تكن هذه المدينة المباركة وليدة الفتح الإسلامي، بل تشير الأدلة الأثرية إلى أن أرض كربلاء كانت مأهولة منذ ما يزيد على ألفي عام قبل الميلاد، وارتبطت بأدوار حضارية كبرى كالدور الآشوري والبابلي الحديث، مما يجعلها من أقدم التجمعات السكانية المعروفة في منطقة وادي الرافدين.
في سنة 65 هـ (684 م)، سجّلت كربلاء واحدة من أهم محطاتها التأسيسية، عندما بادر المختار بن عبيدة الثقفي إلى إحاطة قبر الإمام الحسين "عليه السلام" بجدار أشبه بالمسجد، وبنى عليه قبةً من الآجر والحصى، إلى جانب تشييد عدد من الدور السكنية المحيطة، وبذلك وضع المختار اللبنة الأولى لما يمكن اعتباره النواة المعمارية الأولى لكربلاء المعاصرة.
وما لبثت كربلاء أن تحولت إلى مركز جذب سكاني وروحي، خصوصاً خلال حكم المأمون العباسي، الذي شهد توسعاً نسبياً في البناء حول المرقد الطاهر.
ووفقاً للمصادر، فإن المدينة لم تسلم من المحن، إذ تعرّضت لهجمة تدميرية كبيرة في عهد المتوكل العباسي سنة 236 هـ، حين أمر بهدم مرقد الإمام الحسين "عليه السلام" ومحو أثره، في واحدة من أبشع الصفحات في تاريخ الاستهداف العباسي لرموز أهل البيت "صلوات الله عليهم".
ورغم ذلك، عادت كربلاء لتنهض من جديد، حيث توسّعت الرقعة السكنية تدريجياً منذ منتصف القرن الثالث الهجري، مدفوعة بالإيمان المتجذر في نفوس الزائرين والمحبين.
مع إعلان تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921م، بدأت كربلاء صفحة جديدة من التحولات الحضرية، فبعد قرون من الاحتلالين العثماني والبريطاني، شهدت المدينة انطلاقة في مشاريع البنى التحتية، ولا سيما في مجالات النقل، والإسكان، والتنظيم الإداري، مما ساهم بفعالية في زيادة عدد السكان وظهور أحياء سكنية حديثة ونواحٍ إدارية جديدة، أعادت رسم الخارطة العمرانية لمحافظة كربلاء.
وتستمر كربلاء اليوم، كمدينة تجمع بين عمق الهوية الدينية وحراك التطور الحضاري، في احتضانها لملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم، وهي تتحول تدريجياً إلى مركز ثقافي وديني وسياحي له ثقله الإقليمي والدولي.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الجغرافي، 2017، ج1، ص57.