في قلب الصحراء، حيث تشتد الحاجة إلى قطرة ماء، تنبض حياة خفية من أعماق الأرض، إنها المياه الجوفية، الرافد الصامت الذي يروي كربلاء في وجه الجفاف والندرة، ومع اتساع الرقعة الصحراوية وقلة الأمطار السطحية، بات الاعتماد على هذه الثروة الباطنية خياراً وجودياً للزراعة والحياة.
تشهد مناطق غرب وشمال غربي محافظة كربلاء المقدسة، نشاطاً زراعياً ملحوظاً، لا بفضل الأنهار، بل بفضل ما تختزنه الصخور في جوفها من مياه وفيرة تحت باطن الأرض.
وتُستثمر هذه المياه بطريقتين، أولهما "العيون الطبيعية" التي تتفجر دون تدخل بشري، وأشهرها هي تلك الموجودة في قضاء "عين التمر"، حيث تنبع المياه من باطن الأرض كما لو كانت هدية من الطبيعة.
ثاني هذه الطرق هي "الآبار الاصطناعية" التي تُحفر بأساليب متقدمة للوصول إلى خزانات المياه الجوفية، وهي تعتمد على وجود مستودعات مغلقة بين طبقات صخرية غير نفّاذة، بالإضافة إلى توفر "منطقة تشرّب" ومناخ مطير يسمح بتغذية الخزانات.
ومما يعرف عن المياه الجوفية أنها ليست ثابتة، فهي تتذبذب تبعاً للفصول، ففي الشتاء، ترتفع مناسيبها بفعل الأمطار، بينما تهبط في الصيف مع اشتداد الجفاف، ويُلاحظ أن مستويات المياه في كربلاء تتراوح بين مستوى سطح الأرض، كما في بعض البرك والمستنقعات، وبين أربعة أمتار تحت السطح في المناطق المرتفعة.
في السنوات الأخيرة، أدى تطور تقنيات حفر الآبار إلى التوسع الكبير في الاعتماد على المياه الجوفية، مما سمح بالوصول إلى أعماق بعيدة والحصول على كميات كبيرة ونوعية جيدة من المياه، غير أن هذا الاعتماد المتزايد يثير تساؤلات بيئية ملحّة، فيما إذا كان هذا المورد يُدار بشكل مستدام؟ وهل تفي الأمطار القليلة بتعويض ما يُستنزف منه سنوياً؟
في مدينة سيد الشهداء "عليه السلام"، لم تعد الحياة مرتبطة فقط بما يسقط من السماء، بل بما يختبئ في الأرض، فالمياه الجوفية باتت شرياناً لا يُرى، لكنه يضخ الحياة في تربةٍ تنتظر موسم الزرع بصبر لا يعرف اليأس.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الجغرافي، 2017، ج1، ص50-51.