في قلب العراق، حيث تنبض الأرض برائحة الطف وتهتزّ الأرواح بإيقاع الشهادة، تقف كربلاء شامخةً كمدينة لا تشبهها مدينة، وموضع لا يضاهيه مكان، فهي مدينة الحسين، وبلدة الشهداء، ومهوى أفئدة الملايين، ومهد الطهر والتضحية، ومقصد القلوب التي أنهكتها الدنيا واشتاقت للقداسة.
منذ أن سالت دماء الشهداء على أرضها الطاهرة، واجتمع فيها آل بيت النبوة مع أعرق القبائل العربية سنة 60 للهجرة، ارتفعت كربلاء إلى مصافّ المدن الخالدة، ففيها التقت دماء بني هاشم ومداد العلماء، وفي طقّها المبارك تلاحمت قبائل همدان، وأسد، ومذحج، والأزد، وتميم، وغفار، وكندة، والخزرج، وغيرهم من فرسان الجزيرة، ليكتبوا فصلاً لا يُمحى من التاريخ.
لم تكن واقعة عاشوراء حدثاً عابراً، بل كانت لحظة فاصلة تبلورت فيها معاني النسب والشجاعة، والحكمة والولاء، ففي كربلاء تعانقت ذراري بني علي، وبني الحسن، وبني الحسين، وبني عقيل، وبني جعفر، ومناصريهم من قبائل كاهل وفقعس وهمدان وغيرها، حتى غدت المدينة رمزاً للموقف، ومأوى للقلوب الصادقة.
كما لم تكن كربلاء مدينة عابرة في جغرافيا العراق، بل صارت ملتقى الأمم، ومستقر الأرواح الطاهرة، ومهوى أفئدة المؤمنين، يسكنها الزائرون كأنها جفن العين، ويقصدها المحبّون كما يُقصَد القلب في الجسد، وهي اليوم ملتقى البيوتات الأصيلة من كل صوب، من بني أسد، وخفاجة، وشمر، وتميم، وربيعة، والخزرج، وكعب، وعنزة، والدليم، والجبور، وغيرها من القبائل العربية الأصيلة التي استوطنتها وساهمت في كتابة هويتها.
وما زالت كربلاء تلد رجالها من رحم المجد، وتحفظ أسماءهم بين دفتي التاريخ، كما حفظت آل طعمة تاريخها وحافظوا على تراثها، فألّف السيد عبد الحسين الكليدار كتاب "بغية النبلاء في تاريخ كربلاء"، وتلاه السيد عبد الجواد الكليدار بكتاب "تاريخ كربلاء وحائر الحسين"، ثم السيد محمد حسن الكليدار بكتابه "مدينة الحسين"، واليوم يواصل السيد سلمان هادي طعمة هذا العطاء بكتابه الموسوعي "عشائر كربلاء وأسرها"، الذي أرّخ فيه لأصول العوائل والأنساب، وسجّل ذاكرة المدينة بمنهج علمي متين، محمولٍ على محبة وولاء لا ينقطعان.
يروي السيد سلمان أنه من أبناء بني أسد الذين حلّوا بكربلاء منذ محرم سنة 60 هـ، وشاركوا في ملحمة عاشوراء، ولا تزال ذراريهم مقيمة في أرض الطف، شاهدةً على الوفاء، ومجددةً للعهد، ومن بيوتاتهم آل محفوظ، الذين سكنوا كربلاء أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وكان منهم الشيخ محمد جواد آل محفوظ، قاضي كربلاء في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وأحد كبار المجتهدين.
إن مدينة مثل كربلاء، بتاريخها العريق، وشهدائها الأبرار، ورجالاتها المجتهدين، تستحق أن يُخصص لتراثها مؤسسات بحثية ومكتبات ضخمة، تحفظ هذا الميراث الجليل وتقدمه للأجيال، وفي هذا السياق، يأتي كتاب السيد سلمان هادي طعمة "عشائر كربلاء وأسرها"، استكمالًا لمشروع طويل من التوثيق التاريخي والمعرفي.
المصدر: سلمان هادي طعمة، عشائر كربلاء وأسرها، دار المحجة البيضاء، 1998، ص11-13.