في عمق التاريخ الشيعي، تبرز مدينة كربلاء ليس فقط كمأوى لثورة الإمام الحسين "عليه السلام"، بل كأرضٍ أنجبت واحتضنت واحدة من أعرق الحوزات العلمية التي غيّرت ملامح الفكر والاجتهاد في العالم الإسلامي.
ومع انبثاق الحوزات العلمية في العراق وإيران، بزغ نجم كربلاء كمركزٍ علمي فذّ، فقصده الأعلام من مختلف الأمصار، متعطشين إلى مناهل علوم أهل البيت "عليه السلام"، لتتحول كربلاء إلى أكثر من مجرّد مدينة مقدسة، بل إلى كعبةٍ للعلماء والمحققين، يتوافد إليها الفطاحل لأخذ العلم من أكابر الفقهاء.
في القرون الهجرية الأولى، كان الشيخ الكليني صاحب "الكافي" الشريف، وفرات بن إبراهيم الكوفي، وأبو غالب الزراري، وأحمد بن محمد، من أبرز من قصد حوزة كربلاء للتتلمذ على يد الشيخ حميد بن زياد النينوائي، حيث كان حديث النبي وأهل بيته "صلوات الله عليهم"، هو جوهر المعرفة وأصل الفقه.
وعلى مرّ القرون، شهدت الحوزة الكربلائية مراحل من الازدهار والفتور، فقد تفاعلت مع الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة، لكنها لم تتوقف قطّ عن العطاء العلمي.
هذا وقد أخرجت الحوزة الكربلائية جملة من العلماء الذين سطّروا أسماءهم في سجل الفقه والأصول، منهم، السيد محمد بن محمد الموسوي الرملي الحائري، الذي طرح "المسائل الحائرية" على الشيخ الطوسي، والشيخ هشام بن إلياس الحائري، والشيخ ابن حمزة صاحب كتاب "الوسيلة"، إلى جانب السيد أحمد الموسوي النقيب، والسيد فخار بن معد الموسوي الحائري، مؤلف "الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب"، ناهيك عن الشيخ علي الخازن الحائري، تلميذ الشهيد الأول، وأستاذ ابن فهد الحلي.
وكان من بين أبرز ما شهدته الفترة اللاحقة، هو سطوع نجم العلّامة ابن فهد الحلي، الذي تجددت الحركة العلمية في عصره، مدعومةً بوجود الشيخ إبراهيم الكفعمي، أحد أبرز أعلام تلك الفترة.
كما بلغت الحوزة ذروتها في عهد الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني، الذي جعل من كربلاء، المدرسة المركزية الوحيدة للشيعة في زمانه، فتخرّج من مدرسته العشرات من الفقهاء البارزين الذين أرسلهم إلى مختلف أقطار العالم الشيعي، فكان ممثليه إلى النجف الأشرف، كلٌ من السيد محمد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، وإلى الكاظمية، الشيخ أسد الله التستري، والسيد محسن الأعرجي، وإلى إيران، الشيخ مهدي النراقي (كاشان)، والميرزا القمي (قم)، والشيخ البرغانيان (قزوين).
تجدر الإشارة الى أن الشيخ البهبهاني كان قد أبقى فقهاء آخرين مثل السيد مهدي الشهرستاني، والسيد علي الطباطبائي إلى جانبه في كربلاء، حيث شكّلوا حينها نواةً جديدة لنمو المدرسة الفقهية، لتستمر بعدها قافلة العطاء مع شخصيات مثل الشيخ محمد حسين الأصبهاني صاحب "الفصول"، والسيد إبراهيم القزويني صاحب "الضوابط"، فضلاً عن السيد محمد المجاهد وشريف العلماء الذي بلغ عدد طلاب درسه أكثر من ألف عالم.
ولا تزال الحوزة العلمية في كربلاء حاضرةً بأصالتها وعلمها، وإن تعددت الحوزات الكبرى في النجف الأشرف وقم المقدسة، لتبقى مدينة سيد الشهداء "عليه السلام"، الأم الرؤوم التي احتضنت البذور الأولى لنهضة الفكر الشيعي، ورسّخت مدرسة التحقيق والعمق في فهم معارف أهل البيت "صلوات الله عليهم أجمعين".
المصدر: الشيخ أحمد الحائري الأسدي، أعلام من كربلاء، مؤسسة البلاغ، 2013، ص5-8.