اشتهرت مدينة كربلاء المقدسة بحرفة صناعة الكاشي الخزفي (القاشاني)، المعروف محليا بـ(الكاشي الكربلائي)، والذي يُستخدم في تزيين جدران العتبات المقدسة والمساجد والجوامع، وقد تعددت الآراء حول الموطن الأصلي للخزف ذي البريق المعدني بين إيران ومصر والعراق، إلا أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن العراق هو الموطن الأول لهذه الصناعة، فقد عُرف استخدام البلاط المزجج (الفخار الملوّن) منذ العصور القديمة، وخاصة في حضارة بلاد ما بين النهرين، حيث زُيّنت الجدران بالزخارف، كما استُخدمت تقنية جديدة في التزيين، تمثلت بطلاء الطابوق بمادة الزجاج لمنحه مزيدا من البريق واللمعان، وقد انتشر استخدام هذا النوع من الطابوق المزجج في تلك الحقبة الزمنية، وهو ما نراه واضحًا في بوابة عشتار بمدينة بابل الأثرية، التي تميّزت بأشكالها المتنوعة، بما في ذلك النقوش النباتية والحيوانية، إلى جانب ألوانها الزاهية، وأبرزها الأزرق الفيروزي، والأبيض، والأسود، والأصفر.
اشتهرت هذه الحرفة في مدينة كربلاء المقدسة وذاع صيتها بفضل توفر المواد الأولية اللازمة لصناعتها، مثل الرمل الأحمر والطين الحري، اللذين يُستخرجان من أطراف المدينة وعلى ضفاف نهر الحسينية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت كربلاء رائدة في صناعة الكاشي، حتى بات يُعرف محليا باسم الكاشي الكربلائي، أما طريقة صناعة الكاشي، فتمر بعدة مراحل، تبدأ بجمع الطين من نهر الحسينية أو من مناطق أطراف كربلاء، حيث يتميز بلونه الأحمر ونقائه من الشوائب، بعد ذلك، يُنقى ويُقطع باستخدام الدولاب الدوّار بالقدم، أما في الوقت الحاضر، فتُستخدم مكائن مخصصة لهذا الغرض، ثم يُقطع الطين إلى أشكال هندسية صغيرة تُعرف باسم (الجيوك)، وبعد التشكيل النهائي، تُترك القطع لتجف في الظل قبل إدخالها إلى فرن خاص لحرقها وتجفيفها تماما حتى تتحول إلى مادة صلبة صفراء اللون، بعد ذلك، تُطلى القطع كليا أو جزئيا بطبقة رقيقة من مواد التزجيج، ثم تُعاد إلى الفرن مرة أخرى على درجة حرارة عالية لإذابة هذه المواد، مما يجعل سطح الكاشي أملس ولامعا، ويلتصق به التزجيج بقوة، بعد إخراج القطع من الفرن، تُقطع يدويا إلى الأشكال المطلوبة، ثم تُعاد مجددا إلى الفرن لتخرج بصورتها النهائية، جاهزة لاستخدامها في تزيين المباني، والمراقد المقدسة، والمساجد، والحسينيات.
استطاعت المدينة تلبية احتياجات معظم المدن العراقية، حيث تضم العديد من الكور والمعامل المتخصصة في هذه الصناعة، ومن أبرز هذه المعامل معمل الحاج مجيد أبو الكاشي، الواقع في محلة المخيم، ومعمل إبراهيم النقاش، القريب من مغتسل العلقمي، والذي يزوّد المراقد المقدسة والمساجد والجوامع والمقابر بالكاشي الكربلائي، كما يوجد معمل الحسيني بالقرب من نهر الهنيدية.
كما أن هناك عوائل كربلائية احترفت تركيب الكاشي الكربلائي على الجدران، ومن أبرزها عائلة بيت المعمار، التي برز منها الحاج حسن محمد المعمار، والذي عمل إلى جانب أخيه الحاج علي جواد محمد المعماروقد كان لحسن المعمار دور بارز في عمارة وزخرفة العديد من المراقد والمقامات المقدسة، حيث ساهم في تزيين الروضتين المقدستين الحسينية والعباسية، والمخيم الحسيني، ومرقد الإمام القاسم (عليه السلام)، ومرقد بنات الإمام الحسن (عليهم السلام)، ومرقد السيد محمد في سامراء، بالإضافة إلى عدد كبير من المساجد والحسينيات المنتشرة في مختلف المحافظات العراقية.
يوجد عدة أنماط للكاشي الكربلائي تستعمل في زخرفة المساجد والمراقد المقدسة ومن أهمها:-
مثلت صناعة الكاشي الكربلائي واحدة من أعرق الحرف التقليدية التي ازدهرت في مدينة كربلاء المقدسة، واستمدت تألقها من تاريخ العراق العريق في صناعة الخزف، ومع توفر المواد الأولية وتوارث الحرفة عبر الأجيال، استمرت هذه الصناعة في تزيين العتبات المقدسة والمساجد والجوامع، مضيفة لمسات فنية راقية تعكس الجمال والروحانية، واليوم، لا تزال كربلاء تحتفظ بمكانتها كمركز رئيسي لهذه الصناعة، مما يجعلها إرثًا فنيا وثقافيا يستحق الاهتمام والحفاظ عليه.
المصدر
الحرف والصناعات اليدوية في كربلاء المقدسة وابعادها التنموية،تأليف وإصدار ونشر مركز كربلاء للدراسات والبحوث،2023،ط1،ص159
زين العابدين سعد عزيز