قبل بزوغ نور الإسلام، كان العرب ينظرون إلى المهن والحرف بنظرة ازدراء واحتقار؛ إذ كانت بعض القبائل تتفاخر على أخرى وتعيّرها بما تمتهنه من أعمال يومية، فقد كان التميميون يسخرون من الأزديين لأن أبناء عمومتهم في عُمان احترفوا الملاحة، بينما عيّر القريشيون أهل المدينة لإمتهانهم الزراعة، وهي مهن لم تكن تليق بكبرياء الجاهليين!
وفي مشهد يجسّد هذه النظرة، قال أبو جهل ــ عدو الإسلام اللدود ــ عندما صعد الصحابي عبد الله بن مسعود على صدره يوم بدر: "لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم"، ساخراً من مهنة الرعي التي كان بن مسعود يمارسها في صغره.
وحتى سيد البشر وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد "صلى الله عليه وآله"، كان قد عمل راعياً لغنم أهل مكة لقاء بضع قِراريط، في مرحلة من مراحل شبابه، وهو ما كان يعدُّه المجتمع الجاهلي آنذاك ضرباً من مشاعر الإستنقاص السائدة آنذاك.
إلا أنه ومع انبلاج إشراقة الدعوة الإسلامية، تغيّرت الموازين، فجاء الإسلام ليقلب هذه القيم الجاهلية رأساً على عقب، ويؤسس لمفهوم جديد ينظر إلى العمل الشريف باعتباره عبادةً خالصةً وجهاداً عظيماً في سبيل الله.
وقد جسد النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله"، هذه الروح الجديدة حينما رأى شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقال الصحابة: "لو كان هذا في سبيل الله"، فردّ رسول الله "صلى الله عليه وآله"، قائلاً: "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها، فهو في سبيل الله."
ولم تقتصر أحاديثه الشريفة "صلى الله عليه وآله" على هذا الموقف؛ بل أكّد في مواضع عدة مكانة العمل بقوله: "إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستعين بها على الناس"، وقوله: "إن الله يحب المؤمن المحترف."
وهكذا أرسى الإسلام رؤيةً حضارية للعمل، جعلت من المهن والحرف وسام شرف لا وصمة عار، ورسالةً سامية لا تجارة دنيوية فقط، ووضع الأسس لمجتمع جديد، لا يُقاس فيه الشرف بالنسب أو المال، بل بسعي الإنسان وكدحه في ميادين العمل الشريف.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الاجتماعي، ج1، ص36-37.