لا مبالغة إذا ما قلنا: إن الناس دهشوا في خلافة أمير المؤمنين-عليه السلام-من شدّة عدالته في الرعية وقسمته بالسويّة، مع إيثاره على نفسه وظهوره للعام والخاص بمنظر من الزهد منقطع النظير حتى إذا ما عُوتِبَ في ذلك فإنه يُجيب: ((يقتدي بي المؤمن ويخشع القلب)).
إن قسمة بيت المال من أعظم المهام وأخطرها ولا ينجو من مخاطره صغيرها وكبيرها إلّا المسدّد، والورع التقي، ولما كان الإمام علي-عليه السلام-خليفة الله في أرضه، وإمام الورعين وسيّد المتّقين، لذلك كانت نظرته إلى بيت المال مختلفة تمام الاختلاف عمّن سبقوه من الحُكام، فكانت أبخس الأشياء ثمنًا وأحقرها في نظر الناس يوزّعها عليهم فيُعطي كل ذي حقٍّ حقّه، وقد نقلت المصادر شيئًا كثيرًا من هذا ممّا يدلّ على دهشة الناس من سياسة الإمام العادلة حتى صاروا يروون ما رأوه بأعينهم وسمعوه، ومن ذلك أن أحدهم روى أنه ((أتى عليّاً مالاً من أصفهان فقسّمه، فوجد فيه رغيفاً فكسره سبع كسر ثم جعل على كل جزء منه كسرة ثم دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيّهم يعطيه أولاً وكانت الكوفة يومئذ أسباعاً [أي: سبع قبائل]))، وروى آخر أنه لما فرغ الإمام من قسمة المال قسَّم بينهم حبالاً جاءت من البحرين فأبوا قبضها زُهدًا فيها؛ وهنا يقول الراوي: ((فأكْرَهَنا عليها، فَخَرَجَت كتَّاناً جيداً فتنافسنا فيها فبلغت دراهم! ثم عمد إلى بيت المال فكسحه ونضحه بالماء [رشّه]، ثم صلى فيه ركعتين، ثم توسّد رداءه وقال: "ينبغي لبيت مال المسلمين أن لا يأتي عليه يوم-أو جمعة-إلّا كان هكذا ليس فيه شيء قد أخذ كل ذي حقٍّ حقّه")).
وروى آخر قائلًا: ((شهدتُ علياً...أتاه رمان فقسَّمه بين الناس فأصاب أهل مسجدنا عشر رمانات))، وسمع أحدهم الإمام-عليه السلام-يخطب ويقول: ((قد أمرنا لنساء المهاجرين بوَرْس [الكركم] وإبَر))، وتعجّب أحدهم مما رأى، فروى قائلًا: ((رأيتُ علياً دخل بيت المال فرأى فيه مالاً فقال: "هذا ههنا والناس يحتاجون؟" فأمر به فقُسِّم بين الناس، فأمر بالبيت فكنس فنُضِحَ [رُشّ بالماء] وصلّى فيه)).
ولا شك أن هكذا سياسة عادلة تأتي بثمارها سريعًا، فبالرغم من قصر عمر خلافة أمير المؤمنين-عليه السلام-إلّا أن الناس تنعّموا في ظلها أيّما تنعُّم، حتى روى عبد الله بن سخبرة أنه ((ما أصبح بالكوفة أحد إلّا ناعماً، إنَّ أدناهم منزلة لَيأكُل من البُر [القمح]، ويجلس في الظّل، ويشرب من ماء الفرات)).
فسلام على الإمام العادل يوم ولِدَ في بيت الله ويوم استُشهِد في بيت الله ويوم يبعثه الله قسيمًا بين الجنة والنار.
................
المصادر:
ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ص30، 65، 75.
البلاذُري، أنساب الأشراف، ج2، ص132، 136-137.
الثقفي، الغارات، ج1، ص51.
أحمد مهلهل
4/ 5/ 2021م