ان الدين فضلاً عن الحقائق الثلاث الكبرى التي ينبئ عنها -من وجود الله سبحانه. ورسالته الى الانسان. وبقاء الإنسان بعد هذه الحياة، وهي القضايا الأهم في حياة الإنسان على الإطلاق-يتضمن بطبيعة الحال جملة من التعاليم التي ينصح بها في ضوء تلك الحقائق مع اخذ الشؤون العامة لحياة الانسان بنظر الاعتبار. وحينئذٍ يقع التساؤل عن اتجاه هذه التعاليم، ورؤيتها للجوانب الإنسانية العامة، ومقدار مؤونة مراعاتها او معونتها للإنسان.
وقد تعرّض القرآن الكريم للتساؤل عن تفضيل الرجل على المرأة تلويحاً في موضعين..
فقال تعالى (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) وقال سبحانه (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالهِمْ).
فنلاحظ في الآية الأولى أنّها لم تجعل الفضيلة للرجال دوماً بأن تقول: (ولا تتمنّوا ما فضّل الله به الرجال على النساء)، بل عبّرت بتفضيل البعض على البعض إشارةً إلى أنّ للفضل نواحي متعدّدة، فقد يكون لكلٍّ من الرجل والمرأة فضل وتميّز من جهة غير ما يكون للآخر.
وكأنّ في إسناد التفضيل إلى الله سبحانه إشارةً إلى أنّ هذا التمايز أمر يتعلّق بالخلقة التكوينيّة حسب ما سنّه الله تبارك وتعالى، ولا يستطيع الإنسان تغيير خلقته، كما لا محيص من تمثّل مقتضيات هذا الاختلاف بطبيعة الحال في التشريع؛ لأنّ التشريع الحكيم هو ما وافق مقتضيات التكوين، وهذه المقتضيات تملي نوعاً من توزيع الأدوار بينهما في الحياة، فلكلّ واحدٍ دور يؤدّيه فيها ويكتسب من خلاله الموقع اللائق به في الحياة.
وكأنّ في التعبير عن الرغبة إلى دور الآخر في الحياة بالتمنّي - الذي هو طلب المستحيل - إشارة إلى أنّه إذا أمّل أحدهما الدور اللائق بالآخر باعتقاد أنّه دور أفضل كان ذلك ضرباً من طلب المستحيل، بمعنى أنّه سوف لن يؤدّي في النهاية إلى وضع سليم ومطمئن ومستقرّ ،بل تؤدّي إلى مضاعفات وارتدادات نابعة عن سعي الإنسان إلى تغيير بنية الحياة وقواعدها وذلك أمر غير مقدور للإنسان، نعم يستطيع الإنسان من الاستزادة من الفضل فيما يناسبه ،وقد يسّر الله سبحانه له ذلك بحسب سنن الحياة.
وأمّا الآية الثانية فهي فرضت القوامة للرجل في الحياة الأسرية، والقوامة هي من القيام على الشيء، والمراد أنّ الرجل هو من يقوم على الأسرة برعايتها وحياطتها، نظراً إلى أنّه لا غنى لأيّ مجتمع ولو كان صغيراً أن يكون الرجوع إلى رأي واحد معيّن من أهله في حال طروّ الاختلاف في النظر ليكون ذلك مرجعاً رافعاً للتشويش والخلاف، لا على أن يمارس سلطةً مطلقةً كما يشاء بل رعايةً للنظم والصلاح، وطبيعة الرجل بحسب خلقته وتكوينه النفسي أنسب بذلك لما يتضمّنه نوعاً من عناصر الحزم في اتّخاذ القرار، والثبات فيه، والبُعد عن التأثُّر بكثير من الأحاسيس والانفعالات العاجلة وامتلاك القوّة التي تقتضيها حماية الأسرة عن الاعتداء من قبل الآخرين، وذاك أمر مُعاش على الإجمال، وتؤيّده جملة من الدراسات الاجتماعيّة، والتي أوردت بعضها أنّ المرأة نوعاً أكثر رغبة إلى الرجل القويّ منها إلى الرجل الضعيف المطاوع.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك بما ذكرته من التفاضل، إلّا أنّ من اللطيف في تعبيرها أنّها لم تعبّر بتفضيل الرجل على المرأة بل عبّرت بتفضيل بعض على بعض.
وكأنّ في هذا التعبير إشارة إلى أنّ ذلك مقتضى تفاضل الرجل والمرأة وامتياز كلٍّ على الآخر كلٍّ في جهة، فكان امتياز الرجل يقتضي اعتبار القوامة له، وإن كان للمرأة فضيلة وامتياز من جهات أخرى.
وقد أضافت الآية تعليلاً آخر يقع في الرتبة الثانية، وهي التكفّل الماليّ من الرجل للأسرة؛ فإنّ تكليف الرجل باستحصال النفقة والإنفاق على الأسرة يناسب إناطة القوامة به فيما يتعلّق بالجوانب الماليّة. والقرار الاقتصادي في الأسرة خاصّةً. وفي سائر شؤون إدارة الأسرة بشكلٍ عامّ على أنّه قد أخذ الدين على الرجل أن يعاشر المرأة بالمعروف، ولا يجوز له أن يستغلّ موقعه للتعسّف والظلم.
وإنّ هذا التعليم لهو تعليم حكيم وواعٍ في نفسه في توزيع أدوار الرجل والمرأة؛ إلّا أنّ سوء تطبيقه واستغلاله على وجه خاطئ هو الذي يجعل له إيحاءً سلبيّاً في نفس الإنسان بتوهّم أنّه يؤسّس لظلم المرأة، ولو وعاه الزوجان وفق سياقه الفطريّ وفي ضوء تجارب الحياة لوجدا أنّه أحسن التشريعات الممكنة في تنظيم العلاقة بين ركني الحياة الأسريّة الرجل والمرأة. وقد يعرف الكثير منّا أُسراً ملتزمة تعيش السعادة بالالتزام بهذه الحدود، بعد أن اقتنعت بصوابها وسدادها.
المصدر / محمد باقر السيستاني، اتجاه الدين في مناحي الحياة، ص 179 – 180 – 181 .