ان الدين فضلاً عن الحقائق الثلاث الكبرى التي ينبئ عنها -من وجود الله سبحانه. ورسالته الى الانسان. وبقاء الإنسان بعد هذه الحياة، وهي القضايا الأهم في حياة الإنسان على الإطلاق-يتضمن بطبيعة الحال جملة من التعاليم التي ينصح بها في ضوء تلك الحقائق مع اخذ الشؤون العامة لحياة الانسان بنظر الاعتبار. وحينئذٍ يقع التساؤل عن اتجاه هذه التعاليم، ورؤيتها للجوانب الإنسانية العامة، ومقدار مؤونة مراعاتها او معونتها للإنسان.
وأمّا عدم التمييز النسبي فهو أيضاً مبدأ واضح في القرآن الكريم وسائر النصوص الدينيّة المعتبرة، فقال سبحانه عن تقييم الناس يوم القيامة : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُْفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ )، وقال عزّ من قائل يردّ ادّعاءأهل الكتاب امتيازهم بكونهم من نسل الرسل الإلهيّة :(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ). وربّما يتراءى للناظر في النصوص اعتماد التمييز النسبيّ في شأن السلالات المصطفاة وأقوامهم حيث قال سبحانه : (ِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالمَينَ )، وقال تعالى عن بني إسرائيل : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمَينَ )، وجاء في شأن أهل بيت النبي (صلوات الله عليهم) (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وقال تعالى في آية المباهلة : (قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )وميّز قرابة النبيّ (ص) في مواضع كما قال تعالى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَْوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولكنّ التأمّل الجامع في النصوص يرفع هذا الانطباع، بل هناك اهتمام في الدين ببيان أنّ مجرّد كون المرء من سلالة الأنبياء لا يضمن له صلاحاً ولا قرباً، وما اصطفاء بعض ذراري الأنبياء إلّا من جهة ثباتهم على الإيمان والفضيلة في اختبارات الحياة؛ ومن ثَمّ كان المقصّرون في هذا الشأن على حدِّ الآخرين، بل أكثر مذمّة وملامة لأنّهم كانوا في بيئة صالحة. قال سبحانه (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَ الَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالمِِينَ )، وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَْيْرَاتِ بِإِذْنِ الله )، وقال سبحانه بعد ذكر بني إسرائيل : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لمََّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون). وأمّا ما جاء من تفضيل بني إسرائيل على العالمين فالمراد به موقع فضل الله عليهم وإنعامه في أن جعل منهم أنبياء، لا أنّ كلّ واحدٍ منهم هو أفضل من سائر الناس، ولكنّ جمعاً منهم أخرجوا هذه النعمة إلى هذا المُخرَج الكاذب وبنوا عليه العصبيّات الذميمة والادّعاءات الواهمة كما قال سبحانه : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنونَ ).ومن ثَمّ كان أحقّ الناس بالأنبياء والصالحين من اتّبعهم وليس ذرّيّتهم، كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ ..).
المصدر / محمد باقر السيستاني، اتجاه الدين في مناحي الحياة، ص 171 -172 -173