ان الدين فضلاً عن الحقائق الثلاث الكبرى التي ينبئ عنها -من وجود الله سبحانه. ورسالته الى الانسان. وبقاء الإنسان بعد هذه الحياة، وهي القضايا الأهم في حياة الإنسان على الإطلاق-يتضمن بطبيعة الحال جملة من التعاليم التي ينصح بها في ضوء تلك الحقائق مع اخذ الشؤون العامة لحياة الانسان بنظر الاعتبار. وحينئذٍ يقع التساؤل عن اتجاه هذه التعاليم، ورؤيتها للجوانب الإنسانية العامة، ومقدار مؤونة مراعاتها او معونتها للإنسان.
إذا اتّضحت هذه المقدّمة نرجع إلى ذكر نموذج من الموارد التي وقع التساؤل عن مدى تطابق ما جاء في الدين وتعاليمه مع العدالة، وهي على نحوين ..
(الأوّل): ما يتعلّ ق بالفعل التكويني لله سبحانه في هذه الحياة الدنيا من قبيل وجوه الشرّ والمرض والخراب التي تحصل وفق السنن التي سنّ عليها الكون والكائنات. وما يتعلّق بالحياة الأخرى ممّا جاء في الدين من جزاء شديد للأعمال.وسوف نوضح القول فيه في القسم الخامس من سلسلة (منهج التثبت في الدين) عند النظر في أدلّة الأنباء والحقائق الثلاثة.
(الثاني): ما يتعلّق بالتشريع الديني، حيث إنّ هناك مجموعة من الأحكام تتضمّن اختلاف الناس في الاستحقاقات والحقوق إمّا على أساس الاختلاف في الخلق كالذكورة والأنوثة. وإمّا على أساس الاختلاف في الدين. وعليه قد يُطرح أنّ هذه الأحكام تخالف العدالة؛ لأنّ مقتضى العدالة التسوية بين الناس في الحقوق والاستحقاقات كلّها، فأيّ تفاوت تشريعيّ بينها يكون تمييزاً غير مستساغ بحكم الضمير الإنساني.
وينبغي الالتفات إلى أننا رغم الموافقة على التقدير العام للفقهاء من عدم تصادم عموم التشريعات الثابتة واليقينية وفق الأدوات الموثوقة مع عدالة التشريع إلا أننا نؤكد على أمر أوضحناه في القسم الأول من سلسلة (منهج التثبت في الدين حقيقة الدين)، وهو أن يقيننا بعدالة الله سبحانه مع خلقه وبتحرّيه للعدالة حسبما يتاح في تشريعاته هو فوق يقيننا بثبوت أي تشريع يكون ثبوته أو استمراره منوطاً بضرب من الاجتهاد مهما كان بعيداً أو نادراً، وإن حقيقة الدين وقداسته وأنباؤه الكبرى واتجاهاته العامة في الحياة لهي أعمق وأوسع وأكبر بكثير من عدة مفردات تشريعية تحتمل في حال افتراض مصادمتها لحركة العدالة أن تكون مرحلية ومسايرة لمقتضيات التوجيه نحو الرشد والعقلانية والاعتدال، وليس هناك من تشريع ديني يكون ثبوته في الدين قطعياً على حدٍّ يوازي ثبوت أصل الدين، لأنه لا يتفق إلا في حال وروده في القرآن الكريم مثلاً ويكون أصل ثبوته في ظرفه أمراً مخالفاً للعدالة، بل كل تشريع يتراءى اليوم مخالفاً للعدالة لا يمكن نفي كونه مقبولاً في التحرك إلى جهة العدالة وفق ما كان متاحاً في ظروف إنشاء التشريع.
وهذا النوع من الموازنة بين القضايا وتقييم مستوى اليقين بها والأخذ بأشدها يقيناً مبدأ منطقي واضح يجري عليه الإدراك الإنساني بالفطرة في جميع مجالات الحياة، كما سيأتي توضيحه في القسم الرابع من سلسلة (منهج التثبت في الدين).
كما إن قداسة الدين لا تنفي وجود تشريعات تتغير نحو الأمثل وفق ما يتاح بحسب الرشد العام، ومن ثم وجدت ظاهرة نسخ الأحكام في الشريعة الجديدة بل في داخل الشريعة نفسها.
ونحن نتأمّل هنا الموردين المذكورين بمقدار ما يسعه هذا البحث من غير مناقشة في ثبوت الحكم أو استمراره منطلقين من افتراض ثبوت الأحكام المذكورة في الدين ثبوتاً يقينياً بمستوى اليقين بأصل الدين وحقائقه الكبرى.
المصدر / محمد باقر السيستاني، اتجاه الدين في مناحي الحياة، ص 167 – 168.