ان الدين فضلاً عن الحقائق الثلاث الكبرى التي ينبئ عنها -من وجود الله سبحانه. ورسالته الى الانسان. وبقاء الإنسان بعد هذه الحياة، وهي القضايا الأهم في حياة الإنسان على الإطلاق-يتضمن بطبيعة الحال جملة من التعاليم التي ينصح بها في ضوء تلك الحقائق مع اخذ الشؤون العامة لحياة الانسان بنظر الاعتبار. وحينئذٍ يقع التساؤل عن اتجاه هذه التعاليم، ورؤيتها للجوانب الإنسانية العامة، ومقدار مؤونة مراعاتها او معونتها للإنسان.
إنّ من العدالة ما لا يستطيع الإنسان غالباً إدراكه، ما لم يتأمل الموضوع من موقع مشرِف على الحياة وسننها وغاياتها؛ حتى يلتفت إلى ما ينبغي تأصيله فيها، بالنظر إلى لوازم الأمور وملزوماتها، ونتائجها ومضاعفاتها. وأما إذا نظر إلى الموضوع من خلال تجربة معيّنة وحالة مفردة، فإنّه يشتبه في تشخيص مقتضيات العدالة؛ لأنّه لا يقدر الآثار المتوقعة للسلوك الخاص، ولا يلتفت إلى الجوانب المزاحمة التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، كما هو الحال فيما تقدم من الأمثلة في التمييز بين العدالة وبين المساواة والرحمة.
بل من العدالة ما لا يستطيع الإنسان إدراكه بمحض التأمّل الكليّ العام، وإنما يتوقف على أن يتأمّل الأمور عن قرب، من خلال الممارسة والتطبيق العمليّ، والكون في موضع المسؤولية وتحمّله لها. فالتنظير البحت يغري الباحث بالمثاليّة المفرطة، بعيداً عن سنن الحياة وقواعدها التي يجدها في مقام الممارسة والتطبيق. ومن ثمَّ نرى أنّ من يكون في موقع الإدارة لمجموعة من الناس يجد من النكات التي يلزم رعايتها ما لا يمكن أن يقتنع به آحاد الأشخاص الذين يديرون أمورهم؛ من جهة عدم ابتلائهم العمليّ بها. وهذا أمر ظاهر للممارس.
المصدر / محمد باقر السيستاني، اتجاه الدين في مناحي الحياة، ص165-166.