الحسين العاشق هو وجه الموشور الأكثر استعصاءاً على الفهم والتعبير، والألصق بالذات الحسينية المطهرة، والأكثر تعبيراً عن وجود، كان ومازال وسيبقى يحير الناس في إدراك سر هذا العشق المجنون له، والذي يتخطى كل التعابير في أبجديات العشق المعهودة.
توجد محاولات كثيرة تحاول مقاربة البدايات في ما يتصل بكربلاء العشق والولاء، بعضها يتخذ من سلسلة التوترات الحدثية المتراكمة، سواء بعد وفاة رسول الله "صلى الله عليه وآله"، أو بعد وفاة أمير المؤمنين "عليه السلام"، أو من تاريخ يقارب ذلك كنقطة للشروع.
هناك محاولات أخرى، تحاول التوغل في التأويل والرمزية عائدة إلى صرخة المهد الأولى، أو إلى لحظات تقارب ذلك، ومع صدق كل تلك المقاربات، إلا أنها تصلح لتاريخ الحسين (الإمام، الثائر، الشهيد، ... الخ)، ولا تتحدث عن الحسين العاشق.
رغم أن الحوادث التاريخية تتحدث عن مسلسل دراماتيكي يحاول إعطاء خارطة مقنعة لحركة الحسين (ع) وأسبابها من المدينة إلى كربلاء إلا أنني أجد منطقاً آخر (من وجهة نظري)، هو الأكثر تناسباً مع هذا الزحف التوحيدي الإلهي المتيم بالملكوت.
إن الشوق الذي كان بمثابة النفس المخالط الى رئتيّ الحسين "عليه السلام" للمعشوق الأوحد منذ أول لحظة تنفس فيها هواء الدنيا، حتى بلغ ذروته في اللحظة التي طوى فيها الأرض هجرة من دار العاشق الأكبر جده (محمد المتفرد) صلى الله عليه وآله وسلم، مروراً بمنزل الأخلاء في كعبة الموحدين، وإنتهاءاً إلى مصرع الفناء، حيث البقاء عند مليك مقتدر، مثل المحرك الأكبر وراء هذه الرحلة التي صارت عنوان التاريخ وخلاصته.
لقد أعلن الحسين "عليه السلام" بيان رحلة عشقه في دعاء يوم عرفة قبال جبل الرحمة، ذاك الدعاء الذي بث فيه ما لا يمكن الحديث عنه لأي أحد غير معشوقه، وهكذا كان الدعاء بوصفه حاجة واعية، الطريق إلى إجابة صراخ الوله الحسيني الذي كاد أن يفتك بصاحبه قبل الوصول إلى ساحة الموعد المرتقب.
يتنفس الحسين "عليه السلام" في تأوهه الأبدي لوعةً على معشوقه، تمتمات دواخله المشتعلة بالوجد فيقول :"إلهي تَرَدُّدي فِى الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزارِ، فَاجْمَعْني عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلني إلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ في وُجُودِهِ مُفتَقِرٌ إلَيْكَ، أيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِر لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ إلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الآثارُ هِي الَّتي تُوصِلُ إلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفقَة عَبد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً، إلهي أمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إلَى الآثارِ فَاَرْجِعْني إلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوارِ، وَهِدايَةِ الاِسْتِبصارِ، حَتّى أرْجعَ إلَيْكَ مِنْها كَما دَخَلْتُ إلَيْكَ مِنْها، مَصُونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ إلَيْها، وَمَرْفُوعَ الْهِمَّةِ عَنِ الاِعْتِمادِ عَلَيْها، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ، إلهي هذا ذُلّي ظاهِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَهذا حالي لايَخْفى عَلَيْكَ، مِنْكَ أطْلُبُ الْوُصُول إلَيْكَ، َوِبَكَ اَسْتَدِلُّ عَلَيْكَ، فَاهْدِني بِنُورِكَ إلَيْكَ، وَأقِمْني بِصِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ".
إن هذا الدفق الذي يكاد يمزق الحروف والجمل طلباً للوصل إلى المعشوق، يتعاظم في صراخ أبجدية الحب الكبرى عندما يقول: "أنْتَ الَّذي أزَلْتَ الأغْيارَ عَنْ قُلُوبِ أحِبّائِكَ حَتّى لَمْ يُحِبُّوا سِواكَ، وَلَمْ يَلْجَأوا إلى غَيْرِكَ، أنْتَ الْمُؤْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أوْحَشَتْهُمُ الْعَوالِمُ، وَأنْتَ الَّذي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبانَتْ لَهُمُ الْمَعالِمُ، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ، وَمَا الَّذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ، لَقَدْ خابَ مَنْ رَضِي دُونَكَ بَدَلاً، وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغى عَنْكَ مُتَحَوِّلاً، كَيْفَ يُرْجى سِواكَ وَأنْتَ ما قَطَعْتَ الإحْسانَ، وَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَأنْتَ ما بَدَّلْتَ عادَةَ الاِمْتِنانِ، يا مَنْ أذاقَ أحِبّآءَهُ حَلاوَةَ الْمُؤانَسَةِ، فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَلِّقينَ، وَيا مَنْ ألْبَسَ أوْلِياءَهُ مَلابِسَ هَيْبَتِهِ، فَقامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُسْتَغْفِرينَ، أنْتَ الذّاكِرُ قَبْلَ الذّاكِرينَ، وَأنْتَ الْبادئ بِالإحْسانِ قَبْلَ تَوَجُّهِ الْعابِدينَ، وَأنْتَ الْجَوادُ بِالْعَطاءِ قَبْلَ طَلَبِ الطّالِبينَ، وَأنْتَ الْوَهّابُ ثُمَّ لِما وَهَبْتَ لَنا مِنَ الْمُسْتَقْرِضينَ، إلهي اُطْلُبْني بِرَحْمَتِكَ حَتّى أصِلَ إلَيْكَ، وَاجْذِبْني بِمَنِّكَ حَتّى أقْبِلَ عَلَيْكَ".
وبعد أن أتم أبجدية عشقه في جبل الرحمة، عاد ليعلن حقيقة مسيرته بلغة تنتمي إلى الواقع في شكلها، لكنها تستبطن إشارات من ملكوت آخر لا يدرك كنهها إلا المستضيئين بنور العشق الحسيني، فقال: "الحمد للّه، وما شاء الله ولا قوة إلا بالله، خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن أكراشاً جوفاً وأحوية سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله".
يستمر العاشق الواله في التماهي مع لغة الواقع من أجل أن يجمع في حظيرة القرب أكبر عدد من بني الإنسان، فهو يدرك ماذا تعني مجانبة أو معاداة المسيرة الحسينية عند الله سبحانه وتعالى، فيقول من منطلق مسؤولية "الحسين الإمام والقائد": "الحمد لله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد إستحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين".
لم يرد الحسين عليه السلام لأي أحد ممن حضر ساحة لقاء المعشوق الأبدي، أن يحتج بذهوله عن الحجة أو غيابه عن الفهم أو خضوعه لظروف قاهرة، فأبلغ في إتمام الحجة تماهيا بشكل أكثر، وإنسياقاً مع الواقع، فخاطب الحضور في جبهة المتحلقين حول الشيطان: "تـبـاً لكم أيّتها الجـماعة وترحـاً، أحين استصـرخـتمونا والهين، فأصرخـناكم موجفين، سللتـم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحـششتم عـلينا ناراً اقـتـدحـناها على عدوّنا وعدوّكم، فـأصـبـحتم ألباً لأعدائكم علـى أوليـائكـم، بــغـير عـدل أفـشــوه فيكم، ولا أمل أصـبـح لكم فيهم، فهلاّ لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحــف، ولكـن أسـرعـتـم إليـهـا كطـيرة الدبــا، وتـداعيتم إليها كتهافـت الفراش، فـسـحـقاً لكـم يا عـبـيد الاُمة، وشـذاذ الأحزاب، ونَبَذَةَ الكـتـاب، ومـحـرّفـي الكلم، وعـصـبة الآثام، ونفثـة الشـيطـان، ومطفئي السـنن، ويحكم أهؤلاء تـعـضـدون، وعنا تتخـاذلون، أجـَلْ والله غـدرٌ فيكـم قـديـم، وشـجـت عـليه اُصـولكـم، وتأزرت عليه فـروعكم، فكنـتم أخـبث ثمر، شــجى للنـاظـر، وأكـلة للغـاصـب، ألا وإنّ الدّعـي بـن الدّعي (يعني ابـن زيـاد) قـدْ ركـز بــين إثــنتــين، بـين السـّلة والذّلة، وهـيهات مـنّا الذّلــة يـأبـى اللّه لنـا ذلك ورسـوله والمـؤمنون، وحـُجـور طـابت وحجور طهرت واُنوف حـمية، ونفوس أبـية من أن نؤثـر طـاعـة اللئام على مصـارع الكرام .
ألا وإنـي زاحـف بــهـذه الاُسـرة عـلى قـلة العدد وخـذلان الناصـر، ثم أنشد هذه الأبيات:
فـإن نهـزم فهـــزّامــون قدمـا وإن نـُهْـــزَم فغـير مُهـزَّمينــــــا
ومـا إن طبنـا جُـبــْن ولكــن منــايانــا ودولــــة آخـــرينـــــــــا
فقـــل للشـــامتين بنــا أفيقـوا سيـلقى الشامـــتون كمــا لقيـــنا
ويسترسل "عليه السلام" في توجيه خطابه قائلا: "ثم أيم اللّه لا تـلبــثـون بـعـدها إلاّ كريثما يركب الفـرس، حتى تدور بكم دور الرحـى، وتـقلقَ بـكم قلق المحور، عهد عهدهُ اليّ أبي عن جـدّي رسول اللّه (صـلى اللّه عـليه وآله وسـلم)، فـأجـمعوا أمركـم وشـركاءكم ثـمّ لا يكـن أمـركـم عـليكم غـُمّة، ثـمّ اقـضـوا إليّ ولا تـُنـظـرون إني تـوكلت على اللّه ربّي وربكّم، ما من دابة إلاّ هــو آخــذ بناصــيتـــها، إنّ ربّي عــلى صراط مسـتـقـيم".
ثم رفع يديه وقال: "اللّهم احـبـس عنهم قطـر السماء، وإبعث عـليـهـم سـنـين كـسـنيّ يوسـف وسلّط عليهم غـلام ثــقـيف يسقيهم كأساً مـصـبـّرة فـإنهم كـذّبونا وخـذلونا، وانت ربُّنا عـليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير".
لابد للبقاء أن يمر عبر الفناء، وهو فناء ظاهر، مثل صورة الميثاق الذي يتم الإمضاء عليه بدفق الدم وتأوه الأنفاس، وهي لحظة كانت في عصر عاشوراء، حيث زحف الرجس والإثم كله إلى صدر، مثل مركز كون العشق الإلهي للأولين والآخرين، فكان انفصال الرأس الشريف لحظة عابرة من فناء ظاهر، تمثل ضرورة تكوينية للولوج إلى زمن البقاء والخلود، حيث يصبح الحسين "عليه السلام" المعشوق الذي يؤجج القلوب استعاراً من ذلك الحين إلى أن يطوي الله الأرض ومن عليها.
فسلام عليك سيدي يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.