في قلب الصحراء الجنوبية، حيث تُصافح رياح الجفاف وجوه الزرع، تنبض كربلاء المقدسة بالحياة بفضل شريانٍ مائيٍّ ممتدٍّ منذ قرون. فالماء هنا ليس مجرد مورد طبيعي، بل حكاية بقاء، وسرّ صمود، ومعركة يومية ضد ندرة المطر وتحديات المناخ.
تقع كربلاء ضمن المناخ الصحراوي الجاف، وتعتمد بدرجة أولى على المياه السطحية التي يشكل نهر الفرات عمودها الفقري، فضلاً عن بعض المياه الجوفية والعيون المتفرقة، ومع محدودية الأمطار التي لا تفي باحتياجات الزراعة، أصبحت شبكة القنوات والجداول التي تتفرع من النهر أشبه بشبكة دماء تُغذي جسد المحافظة الأخضر.
يدخل نهر الفرات إلى كربلاء من الشرق، ويشكّل قاعدة المنظومة الإروائية في المحافظة، ومن سدة الهندية، تتفرع جداول عظيمة أبرزها جدولا الحسينية وبني حسن، اللذان يُعدّان المصدرين الرئيسيين للري الزراعي.
يتفرع جدول الحسينية من الجهة اليمنى للفرات، عبر ناظم خاص بمعدل تصريف يبلغ أكثر من (٣٠٠٠ لتر/ثانية)، حيث يغذّي هذا الجدول مساحة زراعية هائلة تتجاوز (١٨٦) ألف دونم، تمتد عبر أراضٍ تسقى سيحاً وأخرى تُروى بالضخ الصناعي.
ومن هذا الشريان الحيوي، تنبع جداول أخرى فرعية منها، "الوند" الذي يروي (١٤) ألف دونم من بساتين الفواكه والخضروات، و"الكمالية" الذي ينساب جنوبي ناحية الحسينية، بطول (٢٧) كم، ليروي مئات الهكتارات فيها، فضلاً عن جدوليّ "أبو زرع" و"الرشدية" المتفرعان من الضفة اليمنى لنهر الحسينية، ليخترقا الأراضي الزراعية بمنافذ دقيقة، و"الهنيدية" الذي يسلك قلب المدينة، محمّلاً بالحياة.
أما جدول بني حسن، فهو امتداد حضاري للماء، أنشأته الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الثانية، ويمتد لأكثر من (٤٤) كم داخل كربلاء، لتتفرع منه جداول عديدة، تمثل كُلاً منها قصة بذارٍ وحصاد، منها "الشوكية"، و"المشورب"، و"أبو سفن"، و"الدويهية"، فضلاً عن "شط الله"، و"العجمية"، و"شط مله"، وغيرها من الفروع الصغيرة ذات الأثر الكبير على الحياة في هذه المنطقة.
تعكس هذه المنظومة المعقدة قدرة محافظة كربلاء على إدارة مواردها رغم التحديات الطبيعية والمناخية، فهي ليست مجرد جداول إروائية، بل جسور من الماء تربط الماضي بالحاضر، وتغذي الأرض لتبقى كربلاء خصبة، حيّة، مقاومة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور الجغرافي، 2017، ج1، ص45-50.