في رحلةٍ استثنائية عبر العصور والممالك، حطَّ الرحّالة البرتغالي "بيدرو تكسيرا" رحاله في مدينة كربلاء المقدسة يوم الجمعة 24 أيلول 1604م، الموافق لـ 29 ربيع الثاني 1013هـ.
جاء هذا ضمن جولته التي انطلقت من الهند "جزيرة غوا" إلى إيطاليا مروراً بالخليج العربي والعراق وبلاد الشام، حيث اجتاز البادية من البصرة نحو النجف، عابراً مناطق مثل "الرحبة" و"الرهيمية" و"عيون السيد"، قبل أن تطأ قدماه أرض كربلاء.
سمّاها "تكسيرا" بـ "مشهد الحسين"، وأدهشه ما رآه فيها من حيوية دينية وتقاليد راسخة في إكرام الزائرين، فكانت المدينة، بحسب وصفه، تتألف من أربعة آلاف بيت "معظمها بائسة"، إلا أنها ضجت بالحياة الروحية والاقتصادية.
كان سكانها – كما لاحظ –خليطًا من العرب، وبعض الإيرانيين والأتراك، لكن في تلك الفترة بالتحديد، كانت قد خلت تقريباً من الأجانب بسبب اندلاع الحرب بين الصفويين والعثمانيين، فغادرت القوات التركية والعجم، وبقي العرب وحدهم.
هذا وقد نزل "تكسيرا" في أحد الخانات العامرة التي بُنيت خصيصاً لخدمة الزوّار، ثم استوقفه مشهد "السقاة" الذين كانوا يوزعون الماء للناس مجاناً طلباً للأجر وإحياءً لذكرى الإمام الحسين الشهيد العطشان، حيث وصفهم آنذاك بدقة بالغة: جلدية ماء معلّقة، وأيديهم تمسك بطاسات نحاسية أنيقة.
كما أشار الرحالة إلى الأسواق المبنية بالطابوق المتين، والتي كانت مكتظة بالبضائع التي تلبّي حاجات الزائرين والسكان، فتحدث عن وفرة في الأرزاق، إذ كانت الحبوب والفواكه والخضروات متاحة بأسعار زهيدة، بل وحتى بعض الفواكه "الأوربية" – كما قال – وإن لم يسمّها.
تميّزت كربلاء في عينيه بجوّها العليل وهوائها الطيب، وأشاد بنظام ريّ أراضيها الذي يعتمد على جدول متفرّع من نهر الفرات، يبعد عن المدينة بنحو ثمانية فراسخ، وربما أشار بذلك إلى نهر الحسينية الشهير.
أفاد الأستاذ "جعفر الخيّاط" في بحثه عن "تكسيرا"، بأن هذه المشاهدات مستندة إلى ترجمة إنكليزية موثوقة للرواية الأصلية الواردة عن هذا الرحالة والمكتوبة بالبرتغالية، مما يُضفي مصداقية عالية على هذه الملاحظات النادرة التي سجلها رجل أوروبي عن مدينة عراقية مقدسة قبل أكثر من أربعة قرون.
يذكر أن "بيدرو تكسيرا" لم يكن مجرد رحالة عابر، بل كان شاهداً أوروبياً على مشهد روحاني حيّ في كربلاء، ففي زمن الصراعات الكبرى بين الشرق والغرب، وبين الصفويين والعثمانيين، سلّطت رحلته الضوء على وجه آخر من وجوه المدينة، كالخانات العامرة، وجموع الزائرين، والماء العذب، في زمن كانت فيه كربلاء عنوانًا للكرم والمحبّة والقداسة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، ج1، 2019، ص36-39.