في كربلاء المقدسة يشكّل التراث العمراني والاجتماعي تجسيداً حقيقياً لعراقة الحضارة الإسلامية، ومن بين أشهر معالمها التي ما زال صداها يتردد في الذاكرة الشعبية "الحمامات الشعبية" التي كانت ولا تزال جزءاً لا يتجزأ من حياة الكربلائيين، اليوم، وبينما يُشكّل هذا الإرث المتنوع نافذة على الماضي، يواجه خطر الاندثار مع تسارع وتيرة التحضر وتغير أنماط الحياة.
يعود تاريخ نشأة الحمامات الشعبية في مدينة كربلاء إلى عصور طويلة؛ إذ بدأت قصة هذه المعالم التراثية في عهد العثمانيين وما قبل الاحتلال البريطاني، حيث كانت تُبنى لتلبية حاجات السكان في وقتٍ كانت فيه المساكن ضيقة والمرافق الأساسية محدودة، فقد كانت كربلاء تضم في يوم من الأيام أكثر من 21 حمّاماً، انطلق منها زخم اجتماعي وحياة يومية ترتكز على طقوس الاستحمام والترويح عن النفس، سواء للرجال أو للنساء، ومن بين هذه الحمامات يشتهر حمام المالح الذي يرجع تأسيسه إلى القرن العاشر الهجري، وحمام ركن الدولة الذي شُيّد في عهدٍ من عصور المجد الكربلائي
تميّزت الحمامات الكربلائية بطراز معماري يحمل بين طياته آثار العصور السابقة، ممزوجاً بالعناصر العثمانية والفارسية، إذ تُلاحظ في أبنيتها القباب والأروقة الداخلية التي تحفظ نظاماً معمارياً دقيقاً، كانت خطوات دخول الحمام تقليدية ومحفورة في الذاكرة الجماعية؛ يبدأ الزائر من البوابة حيث يُخلع ملابسه ويستبدلها بعدد من المناشف، فيتبع ذلك المرور عبر غرفة بدرجة حرارة معتدلة وصولاً إلى القدور المملوءة بالماء الساخن، ومن ثم ينتقل المستحم إلى غرفة البخار ليجلس فيها لفترة كافية حتى يفرز جسده العرق الذي يُعتبر مكوّناً من السموم، تليها جلسة التدليك والاستحمام بالصابون والليفة، ثم ينتهي الأمر بعملية التنشيف؛ وهكذا تشكل هذه الطقوس جزءاً من الحياة اليومية والاحتفالية على حد سواء
تنوعت الحمامات في كربلاء لتلبي احتياجات شتى فئات المجتمع، إذ لم تكن مجرد مكان للنظافة الشخصية، بل كانت ملتقى اجتماعياً وثقافياً:
يُذكر أن لهذه الحمامات دوراً مميزاً في توطيد الروابط الاجتماعية، فقد كان الشباب يستعدون للزواج ويصطحبون أقاربهم وأصدقائهم لزيارة الحمام، كما كان الكبار يتذكرون قصص أجدادهم من خلال هذه الطقوس التقليدية
تحكي اللقاءات مع كبار السن في كربلاء عن مدى ارتباط السكان بهذه الحمامات؛ حيث يؤكد البعض أن زيارة الحمام كانت عادة يومية متوارثة من جيل إلى جيل، وكانت تُعدّ بمثابة احتفال بالتراث والثقافة، فكما يروي أحد الشهود أن والده وجده كانا يذهبان إلى الحمام كل يوم جمعة، مؤكدين على أهمية هذه العادة في الحفاظ على الهوية الكربلائية، كما أشار أصحاب الحمامات أنفسهم إلى أن خدمات الحمام كانت لا تقتصر على الاستحمام فحسب، بل شملت التدليك والعلاج الطبيعي الذي أصبح جزءاً من الخدمة المقدمة، مما أكسب الحمامات بعداً صحياً واجتماعياً في آن واحد
رغم الأهمية التاريخية والاجتماعية لهذه الحمامات، فإنها اليوم تواجه خطر الاندثار؛ فقد أدت التطورات العمرانية وظهور الحمامات المنزلية إلى تقليل الإقبال عليها، بالإضافة إلى التهميش والاهتمام المحدود من الجهات الرسمية في الحفاظ على هذا التراث. فقد اندثرت معظم الحمامات التي كانت تنتشر في أرجاء المدينة واستُبدلت بمحال تجارية وبنايات عصرية، فيما بقي عدد قليل منها يحتفظ بعبق الماضي ويستقبل الزوار خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.
راجع
د.رؤوف الانصاري،عمارة كربلاء: دراسة عمرانية وتخطيطية ،مؤسسة الصالحاني ،دمشق،2006،ص225
زين العابدين سعد عزيز