في ذاكرة التاريخ، تضيء أسماء الرجال الذين قاتلوا إلى جانب الإمام علي بن أبي طالب "عليهما السلام"، وتجلّت وفاءاتهم في ساعات المصير.
من بين هذه الأسماء، يتصدر اسم "الهفاف بن المهند الراسبي"، الفارس البصري الشجاع، الذي اختار الولاء لآل بيت النبي "صلوات الله عليهم" ميثاقاً لا ينقض، وسار على دربهم حتى الرمق الأخير.
ولد الهفاف الراسبي في مدينة البصرة، وعُرف بين أهلها بالشجاعة والإخلاص، وكان من الفرسان الذين ثبتوا في معسكر الإمام علي "عليه السلام" في كل المعارك، حتى إن الإمام عهد إليه بقيادة رجال "أزد البصرة" في معركة صفين، في دلالة على مكانته العسكرية والروحية.
ولمّا استُشهد أمير المؤمنين "عليه السلام"، ظل الهفاف على العهد، مرافقاً للإمام الحسن "عليه السلام"، ثم للإمام الحسين "عليه السلام" من بعده، وحين وصلت إليه أنباء توجه الحسين "عليه السلام" إلى العراق، لم يتردد، بل حمل سيفه وهمّ بالالتحاق بالركب الحسيني، لكن قدره تأخر عن الموعد، لا عن الموقف.
في عصر عاشوراء، وبعد أن حُسمت المعركة باستشهاد الإمام الحسين "عليه السلام" وأصحابه الأبرار "رضوان الله عليهم"، وصل الهفاف الراسبي متعباً، وقد مزق الطرق الوعرة بحثاً عن كربلاء، فسأل القوم: "أين الحسين؟"، فقيل له بمرارة المنتصرين زيفاً: "قد قتلنا الحسين وأصحابه وأنصاره وكُلُّ مَن لحق به وانضم إليه، ولم يبق غير النساء والأطفال وابنه العليل علي بن الحسين".
وعندها صرخ الهفاف من الأعماق، واستل سيفه دون تردد، ثم انقض على القوم كالإعصار، يرتجز بصوت الثأر:
يا أيُّها الجُندُ المُجندِ
أنا الهفهافُ بنُ المُهندِ
أحمي عِيالاتِ محمّدِ
فقاتل حتى أنهكته الجراح، ولم يزل يضرب فيهم بسيفه، متسلحًا بروحه المتفجرة غضباً، إلى أن تكالب عليه خمسة عشر رجلاً وقتلوه بعد أن قتل منهم جماعة كبيرة، تاركاً خلفه ملحمة صامتة تصرخ في وجدان الأجيال.
هذا ولم يكن استبساله عابراً في الروايات، إذ أورد بحقه الإمام زين العابدين "عليه السلام" كما ورد في بعض المصادر، شهادة خالدة، قائلاً "ما رأى الناس منذ بعث الله محمد فارساً شجاعاً بعد علي بن أبي طالب، قتل ما قتل كهذا الرجل، فتداعوا عليه، فأقبل خمسة عشر نفراً فاحتوشوه حتى قتلوه في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه".
وبهذا المشهد المهيب، دوّن الهفاف الراسبي اسمه كأول من ثأر لدم الحسين "عليه السلام" بعد عاشوراء، فصار رمزاً للشجاعة المتأخرة زمناً لكنها الصادقة موقفاً، وذكرى بصرية أصيلة في سجل كربلاء الخالد.
المصدر: سعيد رشيد زميزم، رجال ثأروا لدم الحسين، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2021، ص13-15.