حينما يقف المرء اليوم على ضفاف نهر الفرات في كربلاء المقدسة، فأنه لا يواجه مجرىً مائياً وحسب، بل يقرأ في تضاريسه المحفورة بيد الزمن قصة من أعظم ما روته كتب التاريخ، عن نهرٍ كان شاهداً على حضارات، ومعارك، ومآسٍ غيّرت وجه الأمة إلى الأبد.
لم يكن الفرات في موقعه الحالي ثابتاً على مرّ العصور، بل اتخذ مسارات متعددة، منحته أسماء مختلفة عبر الزمن، فسُمّي في مراحل بـ(كوثا)، و(سورا)، و(بلاكوباس)، و(مارساس)، و(نهر الكوفة)، و(العلقمي)، وكل اسم كان شاهداً على عهد وتحوّل.
وتروي المصادر التاريخية أن الملك الساساني "سابور ذو الأكتاف"، حفر في القرن الرابع الميلادي خندقاً استراتيجياً في برية الكوفة، لحماية السواد من هجمات البادية، يمتد لمسافة تقارب 900 كم، والذي عُرف لاحقاً بإسم "خندق سابور"، وكان بمثابة ممر مائي عسكري ومائي محوري.
وفي المنطقة ما بين الأنبار والكوفة، كان الفرات يتشعب إلى فرعين، أحدهما يسير مستقيماً إلى الجنوب، وعُرف قديماً بنهر سورا، أما الفرع الثاني، فكان يسلك مساراً جنوبياً غربياً، يمر بكربلاء، ويصب في نهر الكوفة، وهذا الفرع، كما يرى كثير من المؤرخين، هو ما عُرف لاحقاً بإسم نهر العلقمي، نسبة إلى موقعه ومحاذاته لأراضي الغاضرية التي شهدت ملحمة كربلاء.
وقد ورد في روايات الإمام الصادق "عليه السلام" ما يشير إلى قدسية هذا النهر، حيث قال: "إذا أتيتَ الفرات فاغتسل، وقل اللهم انت خير من وفد... ألخ"، في إشارة واضحة إلى ارتباط هذا النهر بطقوس زيارة الإمام الحسين "عليه السلام".
وبمرور القرون، تراكمت الترسبات الطينية والغرين، حتى طُمس مجرى النهر القديم، لكنّ الخلاف لم يُحسم بشأن تسمية "العلقمي"، فهناك من يرى كالشريف الطقطقي أن الاسم جاء من رجل يُدعى علقمة بن زرارة، من قبيلة تميم، والذي تولّى مهمة إعادة حفر المجرى في القرن الثاني الهجري، فحمل النهر اسمه.
كما ذهب آخرون كالنويري إلى أن التسمية جاءت بسبب انتشار نبات العلقم "الحنظل" على ضفافه، مما جعل "العلقم" يُصبح الاسم المتداول.
هذا وقد ذكرت كتب الإمامية في القرن الرابع الهجري، قنطرة العلقمي باعتبارها أحد معالم الزيارة المقدسة، حيث تُروى عن ابن طاووس وغيره نصوص تنص على الدعاء عندها، مما يدل على مكانتها الروحية.
وتشير كتب التاريخ الإسلامي، ومنها "تاريخ آل سلجوق" لعماد الدين الأصفهاني، إلى أن نهر العلقمي كان يمر بين كربلاء والنجف، مؤكّداً امتداده الحيوي في قلب العراق الروحي.
المصدر: محمد حسن مصطفى الكليدار آل طعمة، مدينة الحسين (مختصر تاريخ كربلاء)، ج2،
مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ص20-22.