كربلاء... مدينة لا تُذكر إلا ويُذكر معها التاريخ المقدّس، والدم المسفوح في سبيل الحق، ولكن هل توقّف سرّها عند المأساة؟ أم أن حتى اسمها كان منذ البدء نبوءةً بالقداسة والشهادة؟
في عرض بحثيّ ثريّ قدّمه مركز كربلاء للدراسات والبحوث عبر موسوعته الحضارية الشاملة، تم الكشف عن عمق دلالات اسم "كربلاء" عبر العصور، بدءاً من المعاجم اللغوية العربية وصولاً إلى النصوص البابلية والآشورية القديمة، وقد جاءت النتائج لتؤكد أن هذا الاسم لم يكن وليد المصادفة، بل مرآة لتراكمٍ حضاري وثقافي وروحي عبر آلاف السنين.
ووفقاً لما أورده "ياقوت الحموي" في كتابه "معجم البلدان"، تنوعت اشتقاقات الاسم، فمنها "الكربلة" والتي تعني رخاوة القدمين، وهو ما رُبط برخاوة أرض المنطقة، أو من "الكَربَل"، وهو نبات الحماض الذي كان يكثر في أراضي كربلاء، كما كان هنالك تفسير لغوي آخر يربطها بـ "كربلة الحنطة"، أي تنقيتها، وهو وصف يتماشى مع طبيعة الأرض المنقّاة من الحصى والحجر.
لكن ما كشفه باحثو المركز أعمق من ذلك بكثير، ففي النصوص البابلية والآشورية، وردت تسميات متعددة تشير إلى ذات الرقعة الجغرافية، مثل "كرب إيل"، و"كرب آل"، و"كار- بلا"، و"كور بابل"، وكلها تحمل مدلولات دينية تعني تقريباً "مكان القُربان" أو "مقر العبادة"، ويُشير أحد التفاسير إلى أن "كور بابل" تعني بلاد بابل، وهي تسمية استخدمت في العهد الكشي، مما يمنح المدينة بُعداً تأريخياً يمتد إلى الألفية الثانية قبل الميلاد.
وهذه التعددية في الأسماء لم تكن عشوائية، بل نتيجة تعاقب الشعوب والأقوام واختلاف ألسنتهم، إذ أطلقت كل مجموعة تسمية على كربلاء بحسب لغتها وثقافتها.
ومن هنا يُستنتج أن اسم "كربلاء" لم يكن مجرد عنوان جغرافي، بل رمزٌ روحي ارتبط عبر الدهور بفكرة القربان، حتى أن بعض الباحثين ربطه بما قالته السيدة زينب "عليها السلام" بعد فاجعة كربلاء "اللهم تقبل منا هذا القربان"، وكأنها كانت تشير إلى تطابق قديم بين الاسم والمصير.
ففي اللغتين السومرية والأكدية، مثّل القربان جزءاً مركزياً من الطقوس، حيث يُعرف بـ (ساتوكو sattukku)، أي القرابين المقدّمة للآلهة، بينما يُطلق على مكان القربان اسم "كي آناغKi-a-nag "، و"آناغ" تعني "سفك الدماء".
ومع استحضار كلمات الإمام الحسين "عليه السلام" في موقعة كربلاء، "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى"، تتجلى حقيقة أن كربلاء لم تكن ساحة معركة فحسب، بل مذبحاً مقدّساً، واسمها ذاته كان شهادة على ما سيجري فوق أرضها.
ختاماً، يؤكد مركز كربلاء للدراسات والبحوث أن دراسة أسماء كربلاء وتاريخها اللغوي ليست ترفاً أكاديمياً، بل وسيلة لفهم العمق الحضاري والروحي الذي سبق وأسس لقداسة هذه المدينة، وهي دعوة مفتوحة للباحثين والغيارى على تراثهم، للغوص أكثر في هوية الأرض التي كانت دوماً أقرب إلى السماء.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ القديم، ج1، 2017، ص41-43.