شهدت الساحة السياسية في العراق خلال ستينيات القرن العشرين توتراً شديداً بين السلطة الحاكمة آنذاك والمرجعية الدينية العليا، وكان في مقدمتها المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدّس سرّه). وتفاقم هذا التوتر بشكل خاص في عهد الرئيس عبد السلام عارف، الذي تبنّى سياسات طائفية ممنهجة استهدفت الشيعة العرب والكرد الفيليين، إلى جانب ممارساته القمعية تجاه القوى الدينية المعارضة.
وبحسب العديد من المصادر، يُعد عبد السلام عارف من أوائل من رسّخوا الطائفية في العراق بصورة علنية، رغم محاولات بعض الكتّاب والمؤيدين له لاحقاً تبرير تلك الممارسات والتغطية عليها. وفي إطار سياسته المعادية، شنّ عارف حرباً على أبناء المكون الكردي العراقي، وسعى لإضفاء غطاء شرعي عليها عبر تنظيم مؤتمر إسلامي في بغداد شارك فيه عدد من رجال الدين البارزين، من بينهم شيخ الأزهر ومفتي بغداد؛ بهدف إصدار فتوى تُكفّر الأكراد وتُصنّفهم ضمن فئة "البغاة"، وهو توصيف يترتّب عليه في الإسلام حكم القتال والقتل.
في مقابل هذا التوجه، اتخذ المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (قدّس سرّه) موقفاً تاريخياً وشجاعاً، حيث عقد خلال زيارته إلى كربلاء المقدسة في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) عام 1964م، اجتماعاً مهماًّ أعلن فيه فتواه الشهيرة بتحريم قتال الكرد، والتي جاء فيها: "الأكراد مسلمون، ولا يجوز قتالهم، ويجب معالجة قضيتهم بالحوار والطرق السلمية."
أحدثت هذه الفتوى صدى واسعاً في الأوساط الشعبية والدينية والسياسية، وأسهمت بشكل مباشر في كبح جماح السلطة وردعها عن الاستمرار في مخططها الإقصائي، إذ أدّت إلى تأليب الرأي العام ضد قرار الحكومة، ووفّرت غطاءً شرعياً وأخلاقياً لحماية أبناء المكون الكردي من الإبادة، مما ساعد على وقف سفك الدماء وأسهم في الحفاظ على اللحمة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي.
لم يتقبل عبد السلام عارف هذا الموقف النبيل من المرجعية، فردّ بحملة تضييق واستهداف طالت وكلاء السيد الحكيم ومعتمديه، كما دعم تيارات متطرفة معادية للمرجعية، وشرع في تنفيذ إجراءات اقتصادية ذات بعد طائفي، أبرزها إصدار القرار رقم 100 لعام 1964، الذي قضى بتأميم المصارف ومصادرة أموال كبار التجار الشيعة، تحت ذريعة تطبيق الاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية، بينما كانت تلك الإجراءات في جوهرها سياسية وطائفية أكثر منها اقتصادية.
لقد مثّل موقف السيد محسن الحكيم (قدّس سرّه) نموذجاً راقياً في المسؤولية الدينية والإنسانية، وأسّس لمبدأ راسخ في وجدان الأمة يتمثّل برفض الظلم والطائفية، والدعوة إلى الحوار والوحدة كطريق وحيد لحل الأزمات. وهو ما انعكس على ترك أثر كبير في نفوس المكون الكردي وقياداته ونخبه، فلا زال جميعهم يتذكر هذا الموقف بإجلال ويشيد بدور السيد الحكيم في حماية المكون الكردي من الإبادة الشاملة، حتى سمّيت بعض الشوارع هناك باسم السيد محسن الحكيم، كما بُني مسجد كبير في السليمانية حمل اسمه (قدس سره) لا زال شاخصاً إلى اليوم. ومن بين مواقف الإشادة الكردية نذكر ما نوّه إليه رئيس الجمهورية السابق ونائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني برهم صالح من تثمين وعرفان بأنّ "هذه الفتوى ستبقى حاضرة في أذهاننا ووجداننا إلى الأبد"*
*كلمة الاتحاد الوطني الكردستاني خلال حفل تأبيني عقد في أربيل في الذكرى السنوية لرحيل المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم في 24/ 1/ 2015.