بقلم (عبود مزهر الكرخي)
وكانت واقعة الطفوف معركة دامية بكل معنى الكلمة تمثلت فيها القيم السامية لمعسكر الحق والنور معسكر الحسين "عليه السلام"، يقابله معسكر فيه تمثلت كل قيم الإجرام والخسة والنذالة، فمعسكر الحسين هو معسكر الحياة الذي عندما أتى اليه الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس يجعجع به الى كربلاء، ومنعه من دخول الكوفة، وكان هو وجيشه على وشك الهلاك من شدة العطش، قام الأمام أبي عبد الله وسقاهم الماء وحتى خيولهم ودوابهم وسار معهم، وكان الحر وجيشه يصلون خلف الأمام أبي عبد الله "عليه السلام" فأي إنسانية يحملها هذا الأمام سبط رسول الله "صلى الله عليه وآله".
ومعسكر أبن مرجانه وأبن سعد يقطعون الماء عنه وعن معسكره وعن ذراري رسول الله، فأي خسة وهمجية ونذالة واجرام تمتلكها تلك العصابة المجرمة من جيش يزيد ولكن يبدو أن التاريخ يعيد نفسه وما حصل مع أبوه الأمام امير المؤمنين "عليه السلام" ومع معاوية "عليه لعائن الله" وفي معركة صفين، فعندما كان آبار صفين بيد معاوية، قطع الماء عن جيش الإمام علي "عليه السلام"، ولكن عندما أخذها الأمام علي "عليه السلام"، لم يمنع الماء عن جيش معاوية المجرم، وقوله "عليه السلام" اِنَّ "الْخَطْبَ اَعْظَمُ مِنْ مَنْعِهِمُ الْماءَ، فَلا تَمْنَعوُهُمُ الْماءَ وَ لا تُكافِؤُهُمْ بِصَنيعِهِمْ ".
فداك روحى و مهجتى، ما أعظمها من خصلة و اكبرها من خلّة، لا توجد فى نوابغ العالم و عباقرته سواه، و ينطبق عليه اشدّ الإنطباق قول الشّاعر:
ملكنا فكان العفو منّا سجيَّة *** فلمّا ملكتم سال بالدَّم أبطح
فحسبكم هذا التّـــفاوت بيننا *** فكلُّ إناء بالّذي فيه ينضح
وقد صدق أمير المؤمنين روحي له الفداء بهذا الكلام. ليسير ابنه من بعده على هذا النهج المحمدي العلوي، وهو من كان يعانق اًصحابه كلهم عندما يستشهدون وحتى العبد "جون بن حوي" الذي يلقب بـ "العبد الحر" والذي همس في اذنه في ليلة العاشر من محرم بالقول: "أنت في أذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتل بطريقنا"، ليلتفت "جون" ويرى أن الإمام الحسين "عليه السلام" هو من يخاطبه، فلا يتمالك "جون" نفسه، أيمكن أن يترك الحسين وقد أحاط به الأعداء من كل جانب وقد رباه سيده "أبو ذر" على حب الحسين وحب أبيه وأمه وأخيه وجده "صلوات الله عليهم" حتى تملّكه هذا الحب؟ أيمكن أن يجحد اليد التي أحنت عليه والقلب الذي رق وعطف له؟ لا وألف لا... وقع جون على قدمي سيد الشهداء "عليه السلام" يقبلهما وهو يبكي ويقول:
"يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم، والله إن ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس علي بالجنة، فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض لوني، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم أهل البيت".
ليقف الإمام الحسين "عليه السلام" بعدها على جسد "جون" الطاهر الذي بذله فداءً وإخلاصاً للإسلام، وقال: "اللهم بيض وجهه، وطيب ريحه، واحشره مع محمد، وعرّف بينه وبين آل محمد"، فكان كل من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك كما ورد عن الإمام الباقر: "أن الناس كانوا يحضرون المعركة ليدفنون موتاهم فوجدوا جوناً تفوح منه رائحة المسك".
وكذلك يقابله معسكر قد قتل عبد الله الرضيع وهو في حضن أبوه ولم تؤاخذهم اي رحمة في قتله، وحتى النساء لم تسلم من القتل في معسكر العار والنذالة فهذه الشهيدة "أم وهب" التي شهدت مقتل زوجها، لتخرج ماشيةً إليه حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وهي تقول: "هنيئاً لك الجنة"، فقال شمر بن ذي الجوشن "لعنه الله" لغلام يسمى "رستم": "إضرب رأسها بالعمود"، فضرب رأسها فشدخه فقتلت رحمها اللّه، وهي أول امرأة أستشهدت في كربلاء مع الإمام الحسين "عليه السلام".
ونتيجة وهذا الصراع الهائل بين الدولة وحكم الطغاة ممثلة بيزيد واعوانه المجرمين، وبين معسكر الحسين الذي كان يريد ان يضع الدولة في جوهر الإسلام، وجعل هذا يطمح الى الخلود والاتصال ليكون بالتالي خاتماً للرسالات السماوية، أي تطبيق الرسالة المحمدية قولاً وفعلاً، وبالتالي تحقيق النظام الإسلامي الحقيقي القائم على قيم الحق والعدالة والمساواة، وليرتبط هذا النظام بالنظام الإنساني وجوهر الحياة الإنسانية الخالدة، ولهذا كان أهم مواد الدستور هو نظام الدولة العادلة.
ولهذا جاءت النزعات الفردية في عدم القبول بالوصاية وحكم بني هاشم ممثلةً بالخليفة الثاني، مدعياً أن ذلك يمثل حكماً فردياً وغير انتخابي، والحقيقة أن هذه المعارضة هي لم ترضي بالحكم الإلهي الدائم بأن يكون طابع الحكم ذا سمة نبوية هاشمية، وليكون انتخابياً في ظاهر الأمر، ولكن الحقيقة أنه تم حصره في أطار ضيق جداً وجردت قريش منه أكثر المسلمين لتقاصر الأصوات الانتخابية على عدد قليل، وبالتالي يصبح بعد عقدين من الزمان محصور بستة أشخاص، وليطالبوا من يحكم بالحكم بسنة الشيخين وليس بالقرآن والسنة النبوية، وليصبح هذا الانتخاب على أساس القرابة والنسب الموجود داخل هذا المجلس مع الخليفة وإبعاد وصي الله عن الحكم، وليشتد هذا الأمر ليصبح في زمن معاوية الأموي حكماً فردياً وحكم ملوك متوارث، وليصبح دكتاتورية متفردة من قبل بنو امية وهي بعيدة كل البعد عن طبيعة الحكم الإسلامي، لتضيع الحقيقة التي قالها الإسلام في هذا الموضوع.