واجه البريطانيون في كربلاء اول هزيمة لهم، اذ اتخذ الاستفتاء فيها طابعاً أعنف واشد من بقية المدن العراقية بعد أن رفض رجالاتها ومنهم السيد عبد الوهاب آل الوهاب الاجابة على الأسئلة الثلاث التي يتضمنها الاستفتاء بحضور الرائد (تیلرTailler) حاكم الفرات الاوسط السياسي اذ تحدث قائلا: (اننا لا نمثل مدينة كربلاء تمثيلا صحيحا، وان هنالك طبقات مختلفة يجب أن تستشار في هذا الموضوع. وانه لابد من إمهال المجتمعين ثلاثة ايام على الأقل، للبحث في هذا الامر الخطير وموافاة الحكومة بما يستقر الرأي عليه).
وبعد اجتماعات شارك فيها العلماء ووجهاء كربلاء ورؤساء عشائرها، اتفق الجميع في 18 كانون الأول ۱۹۱۸ على مضبطة واحدة ورد فيها: (اجتمعنا نحن اهالي كربلاء امتثالا لأمركم، وبعد مداولة الآراء وملاحظة الاصول الاسلامية وطبقا لها، تقرر رأينا أن نستظل بظل راية عربية اسلامية، فانتخبنا أحد انجال سيدنا الشريف ليكون أميرة علينا مقيدة بمجلس منتخب من اهالي العراق))، فأزعج البريطانيون مضمون المضبطة ولم يتم ادراجها في النشرة الرسمية لنتائج الاستفتاء.
وللحصول على تفویض شرعي، اتجهت انظار العلماء وعامة الناس نحو الشيخ محمد تقي الشيرازي في وقت كانت فيه صحة المرجع الديني الأعلى السيد محمد کاظم اليزدي متدهورة، لمعرفة رأيه في الشخصية المناسبة لإدارة العراق، فأجابهم في ۲۳ كانون الثاني ۱۹۱۹م بفتواه الشهيرة التي اسقطت جميع اوراق البريطانيين والمتعاونين معهم قائلا: "اليس الاحد من المسلمين أن ينتخب او يختار غير المسلم للأمارة والسلطنة على المسلمين). وهذه هي المرة الأولى خلال مدة السيطرة البريطانية الفعلية على العراق يعطي فيها رجل دین اعلى، رأيا علنية ضد البريطانيين ما اضفى على مطلب الحكم الذاتي مباركة دينية وفي الوقت نفسه بداية المقاومة الدينية في العتبات المقدسة.
أيد العلماء ورجال الدين في كربلاء خطوة الشيخ الشيرازي، فاقتدوا به بالإفتاء وتحریم انتخاب غير المسلم الحكم العراق بورقة وقعوها وهم: محمد حسين المازندراني، محمد صادق الطباطبائي، عبد الحسين الطباطبائي، محمد الموسوي الحائري، محمد علي الحسيني، غلام حسين المرندي، محمد رضا القزويني، محمد ابراهيم القزويني، علي الشهرستاني، هادي الخراساني، جعفر الهر، كاظم البهبهاني، شيخ مهدي، عبد الهادي، فضل الله، علي الهادي الحسين و محمد تقي الحائري
كان لفتوى الشيرازي آثار بعيدة المدى، فلم يستطع بعض من المؤيدين لبريطانيا من تحدي هذا الأمر الديني، هذا لم توقع ولا مضبطة واحدة في كربلاء تأييده للبريطانيين، الموقف الذي علقت عليه (المس بیل Certrude Bell) السكرتيرة الشرقية لديوان المعتمد السامي قائلة: (ان أنصار البريطانيين قد ترددوا إزاء هذا البيان (الفتوى) في الاعراب عن آرائهم تحريرية في الوقت الذي أكدوا فيه لمعاون الحاكم السياسي تمسكهم بنا).
تعد فتوى الشيرازي تبنياً قوياً لحركة المعارضة في العراق، لذلك انتشرت في مناطقه، وبداية لمرحلة من المواجهة السياسية مع المحتل، كما اظهرت رجل الدين قائمة وموحدة النضال الشعب العراقي، وأسهمت في الوقت نفسه في تطوير الوعي السياسي، اذ جعلت الدين والوطنية في إطار واحد، فأصبح الوطني متدينة والمتدين وطنية، وانتشر بين الناس الحديث النبوي الشريف (حب الوطن من الايمان) وصار شعارا للحركة الوطنية.
مارس الشيخ الشيرازي فضلا عن فتواه الرافضة للوجود البريطاني على الأرض العراقية نشاطا سياسية لتفنيد مزاعم الادارة البريطانية التي إدعت بأن نتائج الاستفتاء كانت لصالحها، اذ شجع على تشكيل الجمعيات الوطنية الاسلامية وعقد الندوات والاجتماعات السرية والعلنية لكشف مخططات بريطانيا في السيطرة على مقدرات وثروات البلاد.
المصدر/ موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ الحديث والمعاصر، ج2، ص359-362.