ولنا أن نتساءل هنا عن دور المرأة المسلمة في ثورة كربلاء ؛ لقد كان في الثائرين الزوج والأخ والولد ، فما كان موقف المرأة من مصارع هؤلاء؟ ويأتينا الجواب من التأريخ فنهتزّ لموقف المرأة في كربلاء ، لقد كانت المرأة اُمّاً واُختاً وزوجة في طليعة الثائرين المُناضلين المُضحين الباذلين لضريبة الدم. ولا أتحدّث هنا عن زينب وعن أخواتها ؛ فمستوى سلوكهن لم يبلغه بشر ، وإنّما أتحدّث عن نساء عاديات جدّاً كنّ إلى أيّام قليلة قبل يوم كربلاء يشغلهن ما يشغل كلّ امرأة من شؤون بيتها وزينتها ، وتربية أولادها والتحدّث مع جاراتها. نساء لا تربطهن بالثائرين رابطة دم ، ولكن تربطهن بهم رابطة مبدأ ورابطة عقيدة ، فضحّين بالولد والزوج
مستبشرات ، ثمّ ضحّين بأنفسهن في النهاية.
هذا عبد الله بن عمير قال لزوجته إنّه يريد المسير إلى الحسين عليهالسلام ، فقالت له :
أصبت ، أصاب الله بك أرشد اُمورك ، افعل وأخرجني معك. فخرج بها حتّى أتى حسيناً فأقام معه.
ثمّ برز ليُقاتل ، فأخذت امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول :
فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطيبين ذرّية محمد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ، ثمّ قالت :
إنّي لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها الحسين عليهالسلام ، فقال : «جُزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ». فانصرفت ، ثمّ قُتل زوجها ، فخرجت تمشي إليه حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول :هنيئاً لك الجنّة. فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يُسمّى رستم :
اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها ، وهي أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين عليهالسلام (1).
وهذا وهب بن حبّاب الكلبي ، قالت له اُمّه :قم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقال :
أفعل. فحمل على القوم ، ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ، ثمّ رجع وقال : يا اُمّاه ، هل رضيتِ؟ فقالت :
ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين عليهالسلام. فقالت له امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك. فقالت له اُمّه :
يا بُني ، اعزب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع ، ولم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ثمّ قُتل وبرز جنادة بن الحارث السلماني ـ وكان خرج بعياله وولده إلى الحسين عليهالسلام ـ فقاتل حتّى قُتل ، فلمّا قُتل أمرت زوجته ولدها عمراً ـ وهو شاب ـ أن ينصر الحسين عليهالسلام ، فقالت له :اخرج يا بُني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله. فخرج واستأذن الحسين عليهالسلام ، فقال الحسين عليهالسلام :«هذا شاب قُتل أبوه ، ولعلّ اُمّه تكره خروجه». فقال الشاب :اُمّي أمرتني بذلك. فبرز وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسه ، ورُمي به إلى عسكر الحسين عليهالسلام ، فحملت اُمّه رأسه وقالت :
أحسنت يا بُني. وأخذت عمود خيمة وهي تقول :
أنا عجوزٌ سيدي ضعيفهْ
خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ
أضربكم بضربةٍ عنيفهْ
دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ
وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين عليهالسلام بصرفها ، ودعا لها
هذه نماذج من سلوك الثائرين في كربلاء. ولقد أهمل التأريخ ذكر كثير من بطولات هؤلاء الثائرين ؛ فإنّ المؤرّخين يحرصون غالباً على تجنّب ذكر التفاصيل الدقيقة ، ويقصرون اهتمامهم على ما يلوح لهم أنّه جليل ، ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في اكتساب الحياة الإسلاميّة سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليهالسلام بوقت طويل ، وذلك هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء ، وقد بدأ الحكّام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين ، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام ، وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها ، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.
ولقد تحطّمت دولة اُميّة بهذه الثورات ، وقامت دولة العباسيِّين بوحي من الأفكار التي تُبشّر بها هذه الثورات ، ولمّا تبيّن للناس أنّ العباسيين كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطغيان وفساد.
تابعونا في الحلقة الثالثة والعشرين