في كربلاء أقبل على أصحابه فقال :«الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يُحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».
ثمّ قال :«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر بنا ما ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»
فقال زهير بن القين :
«سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها».
وقال برير بن خضير :
«يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نُقاتل بين يديك ، نقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة».
وقال نافع بن هلال :
«سر بنا راشداً مُعافى ، مشرقاً إن شئت أو مغرباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك ، ونعادي مَنْ عاداك» ومرّة اُخرى جمع الحسين عليهالسلام أصحابه قرب المساء ـ مساء يوم العاشر ـ فخطبهم قائلاً :
«... أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً. ألا وإنّي أظنّ أنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ، ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ،
وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ...».
هذه فرصة أخيرة منحهم إيّاها الحسين عليهالسلام ، فماذا كان ردّ الفعل؟
قال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر :
ولِمَ نفعل؟
لنبقى بعدك؟!
لا أرنا الله ذلك أبداً.
والتفت الحسين عليهالسلام إلى بني عقيل ، وقال :
«حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم».
فقالوا :
فما يقول الناس ، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا.
لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
وجاء دور أصحابه ، فقال مسلم بن عوسجة :
أنحن نُخلي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن
معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي :والله ، لا نُخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلىاللهعليهوآله فيك. والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة.
وقال زهير بن القين :
والله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ، ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فقالوا :
والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا ، وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا
وقال الحسين عليهالسلام لنافع بن هلال في جوف الليل :
«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟». فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول : ثكلتني اُمّي! إنّ سيفي بألف ، وفرسي بمثله ، فوالله الذي
مَنْ عليّ بك لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فري وجري.
وصاح شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته :
أين بنو اُختنا. فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي ، فقالوا له : ما لك ، وما تريد؟ قال :
أنتم يا بني اُختي آمنون. فقال له الفتية :
لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له
هذا هو مستوى السلوك الذي ارتفع إليه الثائرون ، وهذه هي الأخلاق الجديدة التي قدّموها لمجتمعهم. هذا المجتمع الذي قدر لكثير من فئاته فيما بعد أن تأخذ نفسها بالسير على هذا المستوى العالي من الأخلاق ومُمارسة الحياة.
تابعونا في الحلقة الثانية والعشرين