وها هو يجيب الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له:
«أذكرك الله في نفسك؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن».
فقال له الإمام الحسين عليه السلام:
«أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال له: أين تذهب فإنّك مقتول. فقال:
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى
إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما
وواسى رجالاً صالحينَ بنفسه
وخالفَ مثبوراً وفارقَ مجرما
فإن عشتُ لم أندم وإن مُتُّ لم أُلمْ
كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما»
وها هو وقد أُحيط به، وقيل له: انزل على حكم بني عمّك، يقول:
«لا والله، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
وها هو يخطب أصحابه فيقول:
«أمّا بعد، فقد نزل من الأمر بنا ما ترون، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».
وكان يقول كثيراً: «موت في عزّ خير من حياة في ذلّ».
كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي اختطّه الحسين عليه السلام لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء، وألهب به الروح الإسلاميّة بعد ذلك، وبثّ فيها قوّة جديدة.
لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يُمارسون حياتهم. وهنا نرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها الإنسان العادي إذ
ذاك. لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصّة يعمل لها ويكدح في سبيلها، ولا يُفكّر إلاّ فيها، فإذا اتّسع اُفقه كانت القبيلة محلّ اهتمامه. أمّا المجتمع وآلامه ـ المجتمع الكبير ـ فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأيّ اهتمام، كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه. لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين؛ يُفكّرون ويرسمون خطّة العمل وعليه أن يسير فقط، فلم تكن للرجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.
وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه فيحافظ عليه، ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء، ويسكت عن نقد ما يراه جوراً بسبب ذلك. وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل، ويروي الأشعار في هذا وذاك.
هذا مُخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.
أمّا أصحاب الحسين عليه السلام فقد كان لهم شأن آخر.
لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليه السلام، وشاركته في مصيره رجالاً عاديين، لكلّ منهم بيت وزوجة وأطفال وصداقات، ولكلّ منهم عطاء من بيت المال، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا، في حياته مُتّسع للاستمتاع بالحُبّ وطيّبات الحياة، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه وواجهوا مجتمعهم بعزمهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به، وصمموا على الموت في سبيله.
ولا أستطيع أن أقدّم هنا صورة كاملة وافية لسُلوك آل الحسين وأصحابه
في هذه الثورة، وعليك لكي تخرج بهذه الصورة الوافية أن تقرأ قصّة كربلاء بتمامها، وغاية ما أستطيعه هنا هو أن أقدّم لك لمحات من سلوكهم العالي:
ـ في زُبالة استبان للحسين عليه السلام مصيره حين علم بقتل رسوله إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل، وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، فأخبر مَنْ معه بذلك، وقال: «أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع؛ قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه منّا ذمام».
فتفرّق عنه الناس يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين يُريدون الموت معه، واستمروا على عزمهم هذا إلى اللحظة الأخيرة لكلّ منهم. اللحظة التي أدّى فيها ضريبة الدم كاملة.
تابعونا في الحلقة الحادية والعشرين