وتكلّم علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فقال :
«أيها الناس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي؟!».
ولمّا نودي بقتل الحسين عليه السلام في المدينة، وعلم الناس بذلك ضجّت المدينة بأهلها، ولم تُسمع واعية قطّ مثل نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين عليه السلام. وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب حاسرة ومعها نساؤها، وهي تلوي بثوبها وتقول:
ماذا تقولونَ إنْ قالَ النبيُّ لكمْ
ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الاُممِ
بعترتي وبأهلي بعد مُفتقدي
منهم أُسارى وقتلى ضُرّجوا بدمِ
فلمّا سمع عمرو بن سعيد ـ والي المدينة ـ أصواتهنّ ، ضحك وقال :
عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً
كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ
ثمّ قال: هذه واعية كواعية عثمان.
وقد عبّر هذا الشعور بالإثم عن نفسه بالشعر الذي يتفجّر سخطاً ونقمة على الاُمويِّين، وحنيناً وولاء للحسين عليه السلام، وانفعالاً بثورته.
وثمّة نماذج معاصرة للثورة تكشف لنا بصدق وحرارة عن هذا الأثر الذي خلّفته الثورة في المجتمع الإسلامي.
ولعلّ من أصدق النماذج التي حفظها لنا تأريخ تلك الفترة قول عبد الله بن الحرّ الذي فرّ من الكوفة حين اتّهمه عبيد الله بن زياد بعدم الولاء للسلطة، وقدم إلى كربلاء فنظر إلى مصارع الشهداء وقال:
يقولُ أميرٌ غادرٌ حقّ غادرِ
ألا كنتَ قاتلتَ الشهيدَ ابنَ فاطمهْ
فيا ندمي ألاّ أكونُ نصرتَهُ
ألا كلّ نفسٍ لا تُسدّدُ نادمهْ
وإنّي لآسي لم أكن من حماتِهِ
لذو حسرةٍ ما إنْ تُفارق لازمهْ
سقى اللهُ أرواحَ الذين تآزروا
على نصرهِ سقياً من الغيثِ دائمهْ
وقفتُ على أجداثِهم ومحالِهمْ
فكادَ الحشى ينفضُّ والعينُ ساجمهْ
لَعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوغى
سراعاً إلى الهيجا حماةً خضارمهْ
تآسوا على نصرِ ابنِ بنتِ نبيّهمْ
بأسيافِهم آسادُ غيلٍ ضراغمه
فإنْ يُقتلوا فكلُّ نفسٍ تقيّةٍ
على الأرضِ قد أضحت لذلكَ واجمهْ
وما إنْ رأى الراؤونَ أفضلَ منهمُ
لدى الموتِ ساداتٍ وزهراً قماقمهْ
أتقلتُهم ظلماً وترجو ودادنا
فدع خطّةً ليست لنا بملائمهْ
لَعمري لقد راغمتمونا بقتلِهمْ
فكم ناقمٌ منّا عليكم وناقمهْ
أهمُّ مراراً أن أسيرَ بجحفلٍ
إلى فئةٍ زاغتْ عن الحقّ ظالمهْ
فكفّوا وإلاّ زرتُكم بكتائبٍ
أشدّ عليكم من زحوفِ الديالمهْ
ومن هؤلاء الذين استيقظت ضمائرهم على جريمتهم الرهيبة رضي بن منقذ العبدي ، فقال :
لو شاءَ ربّي ما شهدتُ قتالُهمْ
ولا جعلَ النعماءَ عند ابن جابرِ
لقد كانَ ذاكَ اليوم عاراً وسُبّةً
تُعيّرهُ الأبناءُ بعدَ المعاشرِ
فياليتَ أنّي كنتُ من قبل قتلِهِ
ويومَ حسينٍ كنتُ في رمسِ قابرِ
وقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يبقى مشتعل الأوار ، حافزاً دائماً إلى الثورة والانتقام ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الاُمويِّين كلّما سنحت الفرصة ، ثمّ لا يرتوي ولا يهدأ ولا يستكين وإنّما يطلب من صاحبه ضريبة الدم باستمرار ، وكان سبيل ذلك هو الثورة على الظالمين.
تابعونا في الحلقة الثامنة عشر