وكان لثورة الحسين عليه السلام ونهايته في كربلاء أثر آخر، هو ما سبّبته هذه النهاية وهذا المصير من إثارة الشعور بالإثم في ضمير كلّ مسلم استطاع نصره فلم ينصره، وسمع واعيته فلم يُجبها. ولقد كان هذا الشعور أقوى ما يكون في ضمائر اُولئك الذين كفّوا أيديهم عن نصره بعد أن وعدوه النصر وعاهدوه على الثورة.
ولهذا الشعور بالإثم طرفان؛ فهو من جهة يحمل صاحبه على أن يكفّر عن إثمه الذي ارتكبه وجرمه الذي قارفه، وهو من جهة اُخرى يُثير في النفس مشاعر الحقد والكراهية لاُولئك الذي دُفعوا إلى ارتكاب الإثم.
وهذا ما نراه جليّاً في الشعب المسلم بعد ثورة الحسين عليه السلام، فقد دفع الشعور بالإثم كثيراً من الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتفكير، وزادهم بغضاً للاُمويِّين وحقداً عليهم. وكان التعبير الطبيعي للرغبة في التكفير وللحقد هو الثورة، وهكذا كان؛ فقد استُهدف الاُمويّون لثورات أجّجها مصرع الحسين عليه السلام، وكان باعثها التكفير عن القعود عن نصره والرغبة في الانتقام من الاُمويِّين، وسنرى في فصل آت نماذج من هذه الثورات.
وبسبب هذا الشعور بالإثم لم يُعد موقف المسلمين من الحكم الاُموي موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك بُعد الاُمويِّين عن الدين وظلمهم، وإنّما غدا موقفاً عاطفياً أيضاً؛ حيث إنّ هذا الشعور حدا بالكثيرين إلى الثورة كعمل انتقامي يقصد به التشفّي، وهذا يُفسّر لنا كثيراً من الثورات الفاشلة التي كان من البيّن فشلها قبل اشتعالها؛ فقد كان سببها هو الرغبة في الانتقام، هو تلبية هذا الدّاعي العاطفي، وعندما يقع الإنسان تحت وطأة موقف عاطفي طاغ تغيب عنه احتمالات الفشل والنجاح. وممّا لا ريب فيه أنّ هذا العامل النفسي جعل موقف المسلمين من الحكم الاُموي أكثر إيجابية وحرارة، وأسبغ عليه صفة انتقامية، وجعله عاملاً يحسب له حساب عند الحاكمين. إنّ الموقف العقلي فقط يُمكن السيطرة عليه والتشكيك فيه بأساليب كثيرة، أمّا حين يكون الموقف عاطفياً فإنّ الأمر يختلف تماماً؛ وذلك لأنّ العاطفة الصادقة تمتاز بالاشتعال والفوران والديمومة، ورفض وجهات النظر المقابلة، ولقد كان الشعور بالإثم عند هؤلاء المسلمين عميقاً وصادقاً.
* * *
ولقد قدّر لبقية آل البيت عليهم السلام أن تُلهب هذا الشعور بالإثم، وأن تزيده حدّة وحرارة. هذه زينب بنت علي عليها السلام وقفت في أهل الكوفة، وقد احتشدوا يحدقون في موكب الرؤوس والسبايا ويبكون، فأشارت إليهم أن اسكتوا، فسكتوا ومضت تقول: «أمّا بعد يا أهل الكوفة، أتبكون! فلا سكنت العبرة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا ساء ما تزرون!
أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، ومدار حجّتكم، ومنار محجتكم، وهو سيّد شباب أهل الجنّة؟!
لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء، أتعجبون لو أمطرت دماً؟!
ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتدرون أيّ كبد فريتم، وأيّ دم سفكتم، وأيّ كريمة أبرزتم؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاًًًً».
قال مَنْ سمعها :«فلم أرّ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فلا والله ما أتمّت حديثها حتّى ضجّ الناس بالبكاء وذُهلوا ، وسقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء».
وتكلّمت فاطمة بنت الحسين عليها السلام ، فقالت في كلام لها :«أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فكذبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً.
ويلكم! أترون أيّ يدٍ طاعنتنا منكم ، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون مُحاربتنا؟! قست قلوبكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان ، وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.
تبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات لرسول الله قبلكم ، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب وعترته الطيّبين الأخيار؟!»
تابعونا في الحلقة السابعة عشر