إنّ بعض أدعياء البحث العلمي يرون أنّ الحسين عليه السلام وقف هذا الموقف ليستدرّ الرحمة، ثمّ يقولون: ما كان أغناه عن ذلك. ولكنّهم بعيدون جدّاً عن فهم هذا اللون من مواقف الأبطال العقائديين؛ لو أراد الحسين عليه السلام أن يستدرّ الرحمة وينجو بحياته لاكتفى بأدنى من هذا، لبايع يزيد، لذهب إلى عبيد الله بن زياد، لكتب إلى يزيد يستأمنه ويعطيه البيعة، لكلّم في ذلك عمر بن سعد سرّاً. لو أراد الرحمة لفعل شيئاً من ذلك، ولكنّه توجّه بخطابه إلى الجنود ... الجنود الذين يعلم أنّهم مأمورون ، وأنّهم لا يملكون أن يفعلوا ما يُريدون ، توجّه إليهم ليؤكّد في أذهانهم ومشاعرهم الحقيقة التي ستُرعبهم وستُرعب المجتمع الإسلامي كلّه بعد قليل ... الحقيقة الصارخة بأنّه ومَنْ معه منحدرون من هذه الاُصول العريقة في تاريخ الإسلام ؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ، علي ، فاطمة ، جعفر ، حمزة عليهم السلام. إنّه يُقرّر في أذهانهم أنّهم لا يطلبونه بقتيل قتله منهم ، ولا بمال احتجبه عنهم ، ولا بجراحة أصاب بها أحدهم ، وإنّما يطلبونه لأنّه ثار على الحكم الاُموي الفاسد ، هذا الحكم الذي يُصرّ على قتله باسم الدين وهو في مركزه الديني العظيم.
على هذا النحو ينبغي أن يُفهم هذا النصّ وغيره من النصوص. وانتهت فاجعة كربلاء بمصرع الحسين عليه السلام وآله وصحبه ، ولكنّ نضال بقية آل البيت عليهم السلام في سبيل إشعار المسلمين بالزيف الديني الذي يقوم عليه الحكم الاُموي ، وفي سبيل بثّ الوعي في هذه الجماهير لم ينته ، ولكنّ النضال مُنذ اليوم لن يأخذ شكل الثورة المُسلحة ؛ فقد صُرع في كربلاء جميع الثائرين ، إنّه مُنذ اليوم نضال كلامي ، ولقد واصلت ثورة الحسين عليه السلام في هذا الاتجاه اُخته زينب عقيلة آل أبي طالب.
وقد انكشف هذا الزيف الديني ـ الذي موّه الاُمويّون به حكمهم ـ سريعاً بعد مصرع الحسين عليه السلام وآله ؛ فقد نشر الجنود العائدون تفاصيل الملحمة المروّعة في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها ، فكان لذلك فعل النار بالنسبة إلى السلطان الاُموي وقد روى المؤرّخون لمّا وصل رأس الحسين عليه السلام إلى يزيد حسُنت حال ابن زياد عنده ، ووصله وسرّه ما فعل ، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم ، فندم على قتل الحسين.
لقد تحطّم منذ ذلك اليوم الإطار الديني الذي أحاط به الحكّام الظالمون حكمهم الفاسد ، لم تعُد لهذا الحكم حرمة دينية عند الجماهير المُسلمة. وقد عرفت فيما سبق أنّ الاُمويِّين أنشؤوا جماعة فكرية تتّخذ من نشاطها الفكري وسيلة لتغطية نشاطها السياسي ، ولإسباغ صفة مشروعة على هذا النشاط ، وهي فرقة المرجئة التي تُؤيّد حكومة بني اُميّة ، وتسبغ على تصرّفاتهم صفة دينية ، وتقدّم للناس تفسيراً دينياً خاصّاً يجعل الحاكمين بمأمن من أن ينظر المسلمون إلى أفعالهم المنافية للدين نظرة غضب واستنكار.
وقد دأب الفقهاء الرسميون على إصدار الفتاوى التي تحرّم على الجماهير الثورة على الحكم الفاسد.
قال الشربيني في كتاب مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج :
«وقد عرّف المصنّف البُغاة بقوله : هم مسلمون مُخالفوا الإمام ولو جائراً ، وهم عادلون كما قال القفّال ، وحكاه ابن القشيري عن معظم
الأصحاب ، وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل ، وكذا هو في الأمّ والمختصر مرادهم إمام أهل العدل ، فلا ينافي ذلك. ويدلّ لذلك قول المصنّف في شرح مسلم : إنّ الخروج على الأئمّة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين».
وقال الشيخ عمر النسفي في كتابه «العقائد النسفية» :
«ولا ينعزل الإمام بالفسق ـ أي الخروج على طاعة الله تعالى ـ والجور ـ أي الظلم على عباده تعالى ـ ؛ لأنّ الفاسق من أهل الولاية عند أبي حنيفة ...». وقد علّل ذلك بأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ولا يرون الخروج عليهم ...!!!
وقال الباجوري في حاشيته على شرح الغزّي :
«فتجب طاعة الإمام ولو جائراً. وفي شرح مسلم : يحرم الخروج على الإمام الجائر إجماعاً» ...وهذا فقيه آخر يقول في كتاب مجمع الأنهر وملتقى الأبحر :«والإمام يصير إماماً بالمبايعة معه من الأشراف والأعيان ، وبأن ينفذ حكمه في رعيته ؛ خوفاً من قهره وجبروته ، فإن بويع ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير إماماً ، فإذا صار إماماً فجار لا ينعزل إن كان له قهر وغلبة ، وإلاّ ينعزل».
هذه الفتاوى وأمثالها التي تُحرّم ثورة العادلين على الظالمين الفاسقين ، والتي تجعل مبرّر السيطرة على الحكم القدرة على قهر الرعية وظلمها والجور فيها ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنّما هي النتاج الخبيث للنظرة الدينية إلى
الحكم الاُموي وكلّ حكم ظالم ، وهي نتيجة التبرير الديني لتصرّفات الحكّام الظالمين ولكن هذه الفتاوى التخديرية التي ما أنزل الله بها من سلطان بقيت في بطون الكتب ، ولم تعد الجماهير المسلمة تستمع إليها إلاّ قليلاً ... لقد بدأت تتربّص للثورة في كلّ حين.
تابعونا في الحلقة السادسة عشر