وقد استغل الحسين عليه السلام هذه النقطة ـ إصرارهم على قتله ، وامتناعهم عن الاستجابة لكلّ حلّ سلمي ، ومركزه في المسلمين ـ استغلالاً رائعاً ؛ فقد دأب في كلّ فرصة تُؤاتيه للكلام على تأكيد هذه الحقيقة للجيش الاُموي. وهذا نموذج من كلامه معهم في هذا الشأن «أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم
عليّ ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا منّي العذر (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلى الله عليه وآله ، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار عمّي؟ أو لم يبلغكم قولٌ مُستفيضٌ فيكم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمّدت كذباً مُذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به مَنْ اختلقه. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».فقال له شمر بن ذي الجوشن :هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.فقال له حبيب بن مظاهر :والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك. ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام
«فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص من جراحة؟».
فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى: «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار ، وأخضرّ الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم على جُند لك مُجند ، فأقبل». قالوا له : لم نفعل. فقال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم»، ثمّ قال: «أيّها الناس: إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض». فقال له قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك ؛ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه فقال له الحسين عليه السلام : «أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟.
لا والله، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب».
بهذا الكلام فضح الحسين عليه السلام الزُّخرف الديني في الحكم الاُموي؛ فليس إنساناً عاديّاً هذا الذي ثار على هذا الحكم، إنّه ركيزة من الركائز التي قام عليها الإسلام.. الدين الذي يُبرّر به هذا الحكم وجوده. ومن ناحية اُخرى أشعرهم أنّ الظلم يجب أن يُقابل بالثورة والاحتجاج.. بالعمل الانتحاري (الاستشهادي) حتّى ولو كان هذا الظلم صادراً من جهاز حكم يحكم باسم الدين؛ لأنّ الحكم بمُجرّد أن يظلم يتنكّر للدين.
تابعونا في الحلقة الخامسة عشر