فالاُمويّون الذين لم يرضوا من الحسين عليه السلام إلاّ بالقتل ، قتله وقتل آله آل علي وآل عقيل وأبنائهم ، وقتل طائفة من صفوة أصحابهم تُقىً وديناً وحرصاً على مصلحة المسلمين ، ثمّ منعهم الماء عنهم حتّى قتلوهم عطشاً ، وفيهم الطفل الرضيع والمرأة المرضع ، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل ، وسبي بنات النبوّة على الوجه المعروف ، حاسرات بلا غطاء ولا وطاء ، ونقل رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، كلّ ذلك جرّد الاُمويِّين من كلّ صبغة دينية وإنسانيّة ، بل جعلهم ضدّ الدين والإنسانيّة لقد كانت الرؤوس والسبايا ، وأحاديث الجنود العائدين دلائل حيّة بليغة الأداء ، تعمل على تقويض كلّ ركيزة دينية للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.
ولقد زاد الحسين عليه السلام حراجة مركزهم حين لم يصرّ على القتال، لقد طلب من الحرّ بن يزيد ـ وهو أوّل قائد اُموي واجه الحسين عليه السلام بألف مُحارب ـ أن يتركه ليرجع من حيث أتى، فلم يُجبه الحرّ على ذلك، وكانت الأوامر تقضي عليه ألاّ يُفارق الحسين عليه السلام حتّى يُقدمه الكوفة إلى ابن زياد. ومن نافلة القول إن نذكر أنّ الحسين عليه السلام رفض ذلك. حتّى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش الاُموي فاوضه الحسين عليه السلام طويلاً ، وأقنعه بأن يُمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى ، أو يذهب إلى حيث يريد من بلاد الله. وكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد فأبى ابن زياد ذلك، وكتب إليه: «أمّا بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا تطاوله ولا لتُمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعاً. انظر: فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون. فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ مُشاق ، قاطع ظلوم ، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلت هذا به».
لقد أعطاهم الحسين عليه السلام فرصة يتّقون بها ارتكاب قتله وقتل آله وصحبه ، ولكنّهم أبوا إلاّ القتل ، وأصروا عليه ، فزادهم ذلك فضيحة في المسلمين.
وأغتنم هذه المناسبة هناك فأقول: يتحدّث بعض المؤرّخين عن أنّ الحسين عليه السلام قال لابن سعد: اذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده. والذي نقطع به هو أنّ الحسين عليه السلام لم يقل هذا، ولو أراد ذلك لما صار إلى حالته التي صار إليها. إنّ جميع الدلائل تشير إلى أنّ هذا الخبر إنّما هو من وضع الاُمويِّين وأعوانهم، أرادوا أن يُوهموا الناس أنّ الحسين عليه السلام خشع وخضع وحنى رأسه لسلطان يزيد؛ ليشوّهوا بذلك الموقف البطولي الذي وقفه هو وأصحابه في كربلاء، وقد حرص الاُمويّون وأعوانهم على إخفاء كثير من ملامح ثورة الحسين عليه السلام ومُلابساتها، وأذاعوا كثيراً من الأخبار المكذوبة عنها؛ ليوقفوا عملها التدميري في ملكهم وسلطانهم، ولكنّهم لم يفلحوا.
والذي يدلّ على هذا الخبر ما رواه كثير من المؤرّخين عن عقبة بن سمعان أنّه قال:
صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قُتل ، وسمعت جميع مُخاطباته الناس إلى يوم مقتله ، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنّه يضع يده في يد يزيد ، ولا أن يُسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال : «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس» ، فلم يفعلوا.
ولقد جعلهم موقفهم هذا من الحسين عليه السلام بمثابة الثائرين على الإسلام نفسه.
تابعونا في الحلقة الرابعة عشر