هذه الشواهد وغيرها كثير تكشف عن أنّ المسؤولين الاُمويِّين وأعوانهم كانوا يطالبون الناس بالقيام بفرض ديني حين طلبوا منهم أن يحاربوا الحسين عليه السلام. ولا بدّ أنّهم استندوا في طلبهم هذا إلى ما عهدوه من السند الديني للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.
وقد كان حريّاً بهذه العقيدة ـ إذا عمّت جميع طبقات المجتمع، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تُكافح، ودون أن يظهر في الناس مَنْ يفضح زيفها وبُعدها عن الدين ـ أن تقضي تماماً على كلّ محاولة مقبلة يُراد منها تطوير الواقع الإسلامي، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يُمارسه الاُمويّون وأعوانهم، وكلّما تقدّم الزمن بهذه العقيدة دون أن تجد مُناوئاً تزداد استحكاماً وتأصّلاً في النفوس، وذلك كفيل في النهاية بحمل المجتمع على مُناوئة كلّ حركة تحرّرية.
ويقتضينا الإنصاف للواقع أن نُنبه إلى أنّ دعايات الاُمويِّين الدينية التي هدفوا منها إلى دعم حكمهم الفاسد فشلت في التأثير على الخوارج؛ فقد كان الخوارج يشكّلون القوّة الثورية الوحيدة في المجتمع الإسلامي، وكانوا وحدهم ـ تقريباً ـ القائمين بجميع الحركات التحرريّة ضدّ الحكم الاُموي منذ استتباب الأمر لمعاوية حتّى ثورة الحسين عليه السلام ، إلاّ أنّ حركات الخوارج التمرّدية لم تكن هي تلك الثورة التي يُرجى منها بثّ قوى جديدة
ومفاهيم جديدة في المجتمع الإسلامي، ولم تكن هي الثورة التي يُرجى منها تحطيم الإطار الديني للحكم الاُموي، ولم تكن هذه الحركات التمرّدية لتُؤثّر سوى هزّات خفيفة جدّاً في السطح الاجتماعي ولا تصل إلى القاع أبداً. وكانت هذه الهزّات تحدث في نطاق ضيّق لا يتعدّى حدود المدينة أو القرية التي يحدث فيها التمرّد والاشتباك المسلح بينهم وبين الفرق العسكرية الاُمويّة ، ثمّ لا يلبث السطح الاجتماعي أن يعود إلى ما كان عليه دون أن يتغيّر من حياة الناس ومفاهيمهم ـ حتّى في مركز الحركة ـ أي شيء.
والسبب في ذلك هو أنّ المجتمع الإسلامي لم يكن يتجاوب معهم ، بل كان يُحاربهم ويقف ضدّهم ، ويمكن أن نقول بوثوق : إنّ المجتمع الإسلامي لم يُحارب مع حكّامه الاُمويِّين عن رغبة واندفاع إلاّ ضدّ الخوارج.
وطبيعي أنّه حين لا يتجاوب المجتمع نفسيّاً وعقائديّاً مع القائمين بالثورة ، لا يمكن أن تنجح تلك الثورة مطلقاً على الصعيد الاجتماعي والفكري ، فلا يمكن أن تُحدث تغييراً في التركيب الاجتماعي ؛ لأنّ المجتمع يخذلها ويُناوئها ، ولا يمكن أن تُحدث تغييراً في المفاهيم الثقافية العقائديّة ؛ لأنّ المجتمع يرفض تعاليمها ونزعتها العقائديّة.
يُضاف إلى هذا أنّ الخوارج كانوا قُساة جدّاً ، وعلى جانب كبير من الرعونة والرغبة في سفك الدم ؛ فلم يكونوا يعفون عن قتل أيّ إنسان يُصادفونه دون أن يلقوا بالاً إلى كونه مُحارباً أو مُسالماً ، رجلاً أو امرأة أو طفلاً. وإنّ تشكيلات الخوارج كانت تمتصّ كثيراً من المُجرمين ونهّازي الفرص والطامعين في النّهب.
كلّ هذا جعل المجتمع الإسلامي يقف ضدّهم ؛ ولذلك فلم تكن ثوراتهم المُتكررة لتُحطّم الإطار الديني الذي أحاط به الاُمويّون سلطانهم.
لقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مسلّم به عند الاُمّة المسلمة بأسرها ؛ فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكّام الاُمويّون ، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته وجاهليّته وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام. ولم يكن هذا الرجل إلاّ الحسين عليه السلام ؛ فقد كان له في قلوب المسلمين جميعاً رصيد من الحبّ والإجلال عظيم ، وقد رأيت مصداق ذلك عند الحديث عن إقامته في مكة ، ثمّ عند الحديث عن خروجه منها إلى العراق.
كان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يفضح الحكّام الاُمويِّين ويكشف حقائقهم. وقد وضع موقف الاُمويِّين من ثورة الحسين عليه السلام خطّاً فاصلاً بين الدين الإسلامي والحكم الاُموي، وأظهر هذا الحكم بمظهره الحقيقي وكشف زيفه.
تابعونا في الحلقة الثالثة عشر