لقد كان قادة المجتمع وعامّة أفراده إذ ذاك يقعدون عن أي عمل إيجابي لتطوير واقعهم السيِّئ بمجرد أن يلوح لهم ما قد يُعانون في سبيل ذلك من عذاب ، وما قد يضطّرون إلى بذله من تضحيات. وكانوا يقعدون عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تُحقّق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة ولم يكن هذا خُلق السادة وحدهم ، بل كان خُلق عامّة الناس أيضاً ؛ لذا رأينا تخاذل مجتمع بأسره عن نصر قضيته حين أوقع ابن زياد بمسلم بن عقيل ، وكيف أخذت المرأة تخذّل ابنها وزوجها وأخاها ، وكيف أخذ الرجل يخذّل ابنه وأخاه وأباه. لقد كان اُولئك الذين قالوا للحسين عليهالسلام : «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» صادقين في تصوير ذلك المجتمع ؛ فإنّ قلوب الناس كانت معه لأنّهم يحبّون أن يصيروا إلى حال أحسن من حالهم ، ولكنّهم حين علموا أنّ ذلك موقوف على بذل تضحيات قد تصل إلى بذل الحياة ، انكمشوا وسلّموا سيوفهم في خدمة الذين يدفعون لهم أجر قتالهم لهذا الذي جاء بدعوة منهم ليحرّرهم. فحين استيقن ابن زياد أنّ الحسين عليهالسلام ماضٍ فيما اعتزمه جمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ، ومدح يزيد وأباه وذكر حسن سيرتهما وجميل أثرهما ، ووعد الناس بتوفير العطاء لهم وزادهم في اُعطياتهم مئة مئة ، وأمرهم بالاستعداد والخروج لحرب الحسين عليه السلام .
هذا هو موقف الشعب من الحركات العامّة التي يتوقّف نجاحها على التضحيات ، وأمّا موقف الزعماء فقد عرفته ، وهذه صورة اُخرى منها قدّمها لنا عمر بن سعد أمير الجيش الاُموي ؛ فلقد دار أمره بين أن يُحارب الحسين عليهالسلام وبين أن يفقد إمرة الرّي ، فاختار الأولى على الثانية ولقد حاوره الحسين عليهالسلام في كربلاء ، فقال له :
«ويلك يابن سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن عمّك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي ؛ فإنّه أقرب لك إلى الله ، فقال ابن سعد : أخاف أن تُهدم داري ، فقال الحسين عليهالسلام : أنا أبنيها لك ، فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، فقال الحسين عليهالسلام : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ، فقال : لي عيال وأخاف عليهم ، وهنا اتّضح للحسين عليهالسلام أنّه رجل ميّت القلب ، ميّت الضمير ؛ فإنسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من القياس ليس إنساناً سوي التكوين النفسي ، فقال له الحسين عليهالسلام : «ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو ألاّ تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً».
فقال مستهزئاً : في الشعير كفاية .
هذا هو المجتمع الإسلامي في أيام الحسين عليهالسلام. مجتمع مريض يُشترى ويُباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب ، وما كان من الممكن أن تُردّ إلى هذا المجتمع إنسانيته وكرامته ، وما كان من الممكن أن يُنبّه إلى زيف وحقارة وجوده ، وما كان من الممكن أن تُوقظ فيه روحه النضالية الهامدة إلاّ بعمل انتحاري فاجع يتضمّن أسمى آيات التضحية والكرامة والدفاع عن المبدأ والموت في سبيله ، وهكذا كان.إنّ الحسين عليهالسلام لم يكن ذا مال ليُنافس الاُمويِّين وبيدهم خزائن الأموال ، ولم يكن ليتجافى عن روح الإسلام وتعاليمه فيجلب الناس إليه بالعنف والإرهاب ، ولذا فليس من المعقول أن يطلب نصراً سياسياً آنيّاً في مجتمع لا يُحارب إلاّ في سبيل المال وبالمال ، أو بالقسر والإرهاب ، ولكن كان في وسعه أن يقوم بعمله الذي قام به ليهزّ أعماق هذا المجتمع ، وليُقدّم له مثلاً أعلى طُبع في ضمائر أفراده بدم ونار. وإذا نحن تقصّينا أسماء مَنْ قُتل مع الحسين عليهالسلام في كربلاء وجدنا أصحابه ينتمون إلى معظم القبائل العربيّة ، فقلّ أن توجد قبيلة عربية لم يُقتل مع الحسين عليهالسلام منها واحد أو اثنان.
تابعونا في الحلقة الحادية عشر